والإخوة السلفيون الذين يمون الأشاعرة بإطلاق. مخطئون متجاوزون فالأشاعرة فئة من أهل السنة والجماعة ارتضتهم الأمة لأنهم ارتضوا المتاب والسنة مصدرا لهم ولا يضيرهم أن يخطئوا في بعض المسائل أو يختاروا الرأى المرجوح أو حتى الخطأ فهم بشر مجتهدون غير معصومين ولا توجد فئة سلمت من الزلل والخطأ فيما اجتهدت فيه سواء في مسائل الفروع أم في مسائل الأصول وكل واحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا الرسول المعصوم صلي الله عليه وسلم.
علي أن الحقيقة أن الإخوان في اتجاههم العام ليسوا أشاعرة ولا ضد الأشاعرة إنهم يستمدون عقائدهم من القرآن أولا, ثم من صحيح السنة ثانيا ويأخذون من كل طائفة أفضل ما عندهم مرجحين ما يرجحه الدليل وما يؤيده البرهان مؤثرين مذهب السلف علي مذهب الخلف غير متعصبين ولا منغفلين داعين إلي التوحيد بريئين من الشرك كله أكبره وأصغره جليه وخفيه ولله الحمد أولا وأخيرا.
٧- الإخوان والتصوف
الذين يعادون التصوف من أنصار (السلفية الصارمة) يتهمون الإخوان بأنهم (جماعة صوفية) ويستدلون بان حسن البنا نشأ في طريقة صوفية كما حدثنا بقلمه عن نفسه في مذكراته, وهى حقيقة صوفية. وبأن للتربية الصوفية أثرها لدى الإخوان في كثير من المظاهر ومنها: المبالغة في حب بعضهم لبعض والغلو في تعظيم شيخهم البنا إلي درجة التقديس , واعتبار رسائله وكلماته وكأنها وحى منزل!
أما جماعات (الطرق الصوفية) فهم علي العكس من ذلك تماما فهم يرون الإخوان جماعة (سلفية وهابية) تنكر علي المتصوفة كثيرا من أفكارهم وأذكارهم وسلوكياتهم وتصف ذلك بانه بدع وضلالات, مثل طوافهم حول أضرحة الأولياء واستغاثتهم بهم وعمل الموالد لهم, إلي آخر هذه السلوكيات المعهودة عند طرق االصوفية في شتى البلاد الإسلامية,
والحقيقة أن دعوة الإخوان مزيج رائع من (السلفية المتصوفة) و (الصوفية المتلسفة) وهى كما شرحها مؤسسها رحمه الله دعوة سلفية, حقيقة صوفية. هى دعوة سلفية. لأن الإخوان يدعون إلي العودة بالإسلام إلي معينه الصافي من كتاب الله , وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.
وهى حقيقة صوفية لأنهم يعملون علي أساس التزكية وطهارة النفس ونقاء القلب والمواظبة علي العمل والإعراض عن الخلق والحب في الله والارتباط علي الخير.
فهذا هو التصوف, وهذه هى الصوفية الحقيقية عند حسن البنا إنها ليست الموالد والعوائد وليست (الشركيات) في العقيدة, ولا (البدعيات) في العبادة ولا (السلبيات) في التربية, التي تجعل المريد بين يدى الشيخ كالميت بين يدى مغسله!
التصوف الحق عند حسن البنا يتمثل أول ما يتمثل في طهارة النفس ونقاء القلب , فتزكية النفس هى أول سبيل الفلاح ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد افلح من زكاها. وقد خاب من دساها الشمس: ٧:١٠
والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الإنسان كله, وإذا فسدت فسد الإنسان كله وسلامته أساس النجاة يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم الشعراء: ٨٨, ٨٩ فلابد من المجاهدة لنقاء هذا القلب وصفاته وطهارته من معاصى القلوب وأخطارها.
والمواظبة علي العمل الصالح واجب علي المسلم , فإن أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل.
والإعراض عن الخلق بالإقبال علي الخالق: من صفات الربانيين من أصحاب الرسالات الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله الأحزاب: ٣٩
وهم الموصوفون في قوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة: ٥٤)
فهم لإعراضهم عن الخلق لا يخافون لومة لائم منهم, ولا يخشون أحدا إلا الله سبحانه, لأنهم يوقنون أن الخلق لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا, ولا حياة ولا موتا , وأن الأرزاق التي يطمع الناس فسها والأعمار التي يخاف الناس عليها كلتاهما بيد الله وحده, ولا يملك أحد أن ينقصهم لقمة من رزقهم ولا أن يقدم من أجلهم لحظة أو يؤخر فإذا أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون الأعراف: ٣٤
والحب في الله: دعامة من الدعائم التي تقوم عليها الجماعة المؤمنة فكما تربد بينها المفاهيم المشتركة والفكرة الواحدة تربط بين أبنهائها العواطف المشتركة وأعظم هذه العواطف وأخلدها وأعمقها هو الحب في الله. فهو حب لا يقوم علي عرض من الدنيا أو مال أو جاه أو متعة , أو نحو ذلك بل يقوم علي الإيمان باللع تعالي, والتقرب إليه, والرغبة في نصرة الإسلام, وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
والأرتباط علي الخير من دلائل هذا التوجه الخير وهذا الارتباط يعنى التفاهم والتواصى والتضامن علي الخير فعلا ونية ودعوة. فقد قال تعالي وافعلوا الخير لعلكم تفلحون الحج: ٧٧ .
وقال عزوجل: ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير آل عمران: ١٠٤ وقال عليه الصلاة والسلام:“ من دل علي خير فله مثل أجر فاعله”
وقال عليه الصلاة والسلام:“ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نزى”
وقال تعالي:“ وتعاونوا علي البر والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان” المائدة:٢
وقال عز من قائل (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
لقد استفاد الأستاذ البنا من تجربته الصوفية, وأخذ منها ما صفا, وترك منها ما كدر, وهو موقف كل الرجال الربانيين كما رأينا عند شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم, فلم يكونا ضد التصوف بإطلاق , كما يتصور أو يصور بعض من يزعم الإنتساب إلي مدرستها, بل كانا من أهل المعرفة بالله, والحب له, ومن رجال التربية الإيمانية والسلوك الربانى كما بدا ذلك في مجلدين من مجموع فتاوى ابن تيمية, وفي عدد من كتب ابن القيم أعظمها: مدارج السالكين شرح منازل السائرين إلي مقامات (إياك نعبد وإياك نستعين)
بل كان الإمام أبو الفرج ابن الجوزى (ت ٥٩٧هـ) من هؤلاء الربانيين برغم نقده للتصوف بعنف في كتابه الشهير (تلبيس إبليس كما بين ذلك العلامة أبو الحسن الندوى في كتابه الممتع (ربانية لا رهبانية) وظهرت استفادة البنا في مظاهر شتى في حركته منها في شعارات الحركة: الله غايتنا, والرسول قدوتنا: أى أن رضوان الله هو غاية الغايات من وراء الدعوة والعمل كله. كما نرى ذلك واضحا في جملة من أركان الدعوة أو أركان البيعة, مثل: الإخلاص والتجرد والإخوة والعمل , والجهاد, والثبات , والثقة.
وكثير من دعاة الإخوان نجد عندهم ما ليس عند غيرهم من الذوق الوجدانى , والشوق الإيمانى, والتألق النورانى, والتوجه الربانى, الذي يجعل كلامهم يمس شغاف القلوب, ويلمس أوتار الأرواح , فيؤثر فيها رغبة ورهبة وجدنا ذلك عند شيخنا البهى الخولي في كتابه (تذكرة الدعاة) وحديثه الفياض فيه عن (الروحانية الاجتماعية) وكتابه (آدم عليه السلام) ومقالاته في مجلة (المسلمون) عن (العارفين* وحديثه معنا في طنطا قديما ونحن طلاب في (كتيبة الذبيح) يعنى إسماعيل عليه السلام.
ووجدنا ذلك عند الداعية المحبوب الذي كان في شبابه شعلة متقدة سعيد رمضان, ووجدنا ذلك عند شيخنا محمد الغزالي, كما بينت ذلك في كتابى (الغزالي كما عرفته) ووجدنا ذلك في كتابات عبد العزيز كامل قديما والتلمسانى ومشهور والسيسى وغيرهم وقد بدأنا منذ سنوات كتابة سلسلة (في الطريق إلي الله) أصدرنا فيها أربعة كتب عن (الحياة الربانية والعلم) وعن (النية والإخلاص) , و (التوكل) و (التوبى إلي الله) ونسأل الله أن يعيننا علي إكمالها , ونحن نسير فيها إلي (تصويف السلفية) و (تسليف الصوفية) كما قال الأستاذ محمد المبارك رحمه الله.
ومن ابرز ما يتميز به الصوفية الصادقون ثلاثة أشياء: الإستقامة, والمحبة وطاعة الشيخ وهذه مقومات أساسية في التربية الإخوانية.
وللأستاذ البنا رأى في التصوف والصوفية سجله في مذاكراته يحسن بنا أن ننقله هنا لما يعرفنا بموقف الرجل النظرى والعملي من التصوف والطرق الصوفية وأهلها والرغبة في إصلاحها.
رأى في التصوف للأستاذ حسن البنا:
قال رحمه الله:" حين اتسع عمران الدولة الإسلامية صدر القرن الأول, وكثرت فتوجها وأقبلت الدنيا علي المسلمين من كل مكان ,وجبيت إليهم ثمرات كل شئ وكان خليفتهم بعد ذلك يقول للسحابة ف كبد السماء: شرقى أو غربى فحيثما وقع مطرك جاءنى خراجه كان طبيعيا أن يقبلوا علي هذه الدنيا يتمتعون بنعيمها ويتذوقون حلاوتها وخيراتها في اقتصاد أحيانا وفي إسراف أحيانا أخرى وكان طبيعيا أمام هذا التحول الاجتماعى من تقشف عصر النبوة الزاهدة إلي لين الحياة ونضارها فيما بعد ذلك: أن يقوم من الصالحين الأتقياء العلماء الفضلاء دعاة مؤثرون يزهدون الناس في متاع هذه الحياة الزائل ويذكرونهم بما قد يمسونه من متع الآخرة الباقى (وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت: ٦٤ ومن أول هؤلاء الذين عرفت عنهم أضرابه الدعاة الصالحين , فكانت طائفة في الناس معروفة بهذه الدعوة إلي ذكر الله واليوم الآخر. والزهاد في الدنيا وتربية النفوس علي طاعة الله وتقواه.
وطرأ علي هذه الحقائق كما طرأ علي غيرها من حقائق المعارف الإسلامية فأخذت صورة العلم الذي ينظم سلوكك الإنسان ويرسم به طريقا من الحياة خاصا: مراحله الذكر والعبادة ومعرفة الله ونهايته الوصول إلي الجنة ومرضاة الله.
وهذا القسم من علوم التصوف – وأسميه (علوم التربية والسلوك) – لا شك أنه من لب الإسلام وصميمه, وشك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها والطب لها والرقى بها, ولم يبلغ إليها غيرهم من المربين ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب علي خطة عملية من حيث أداء فرائض الله واجتناب نواهيه ,صدق التوجه إليه, وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات: كالمبالغة في الصمت والجوع والسهر والعزلة. ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه, فالصمت أصله الإعراض عن اللغو, والجوع أصله لتطوع بالصوم والسهر أصله قيام الليل والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها. ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي رسمها الشارع لكان في ذلك كل الخير.
ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد علم السلوك والتربية, ولو وقفت عند هذا الحد لكان خيرا لها وللناس, ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولي إلي تحليل الأذواق والمواجد ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها فخلطت بذلك الدين بما ليس منه, وفحت الثغرات الواسعة إلي الزهد التقشف والرغبة في الحصول علي هذه النتائج الروحية الباهرة.
وأصبح كل ما يكتب او يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين علي صفائه ونقائه.