وقال رحمه الله في بعض فتاويه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله وبالتأويل لجارى علي نهج السبيل. ولم يوجد في شئ من كلامنا وكلام أحد منا, أنا لا نقول بالمجاز والتأويل والله عند لسان كل قائل ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب, وما فتح به الباب إلي هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرفة أهل الكتاب. والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه: أن القرآن مشتمل علي المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم كأبى بكر بن أبى داود وأبى الحسن الخرزى وابى الفضل التميمى وابن حامد فيما أظن وغيرهم إلي إنكار أن يكون في القرآن مجاز وإنما دعاهم إلي ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز, فقابلوا الضلال والفساد بحسم المراد. وخيار الأمور التوسط والإقتصاد. انتهى.
وبهذا نرى أن حسن البنا لم يحد عن نهج الأئمة المحققين الذين يحرصون علي البناء لا الهدم وعلي الجمع لا التفريق.
عدم تأثيم المؤولين وتضليلهم.
وأما الوجه الثالث وهو عدم الحكم بالإثم أو الفسق – فسق التأويل – أو الضلال علي المؤولين فهذا هو توجه شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه , توجه تلميذه الإمام ابن القيم في عدم تأثيم المخطئ في تأويله في المسائل الأصولية أو العلمية ويراد بها: المسائل المتعلقة بالعقائد وأصول الدين.
وقد رد ابن تيمية علي الذين عذروا المخطئين في الاجتهاد في الأحكام الفروعية العملية, بل جعلوا لهم أجر المجتهد المخطئ, ولم يعدوا ذلك إلي من اجتهد في المسائل العلمية أو الإعتقادية, فأخطأ. وأكد أن كل عالم اجتهد في طاعة الله ورسوله والفهم عنهما, في مسائل العلم أو العمل الفروع أو الأصول فأخطأ في اجتهاده أو أصاب فهو دائر بين الأجر والأجرين.
وكان من فضل الشيخ مرعى في كتابه (أقاويل الثقات) الذي نقلنا منه من قيل: أنه لم يتعقب بعض النقول التي أوردها في كتابه, وهى بمنأى عن منهج السلف الذي صرح بالأخذ به, والعدول عما سواه ولا سيما في نقله عن الإمام ابن الجوزى (ت٥٩٧هـ) الذي اضطرب رأيه في مسألة الصفات فمرة ينحو منحى السلف في الإثبات وتارة يخالفهم, ويجنح إلي التأويل , وهو متابع في ذلك شيخه أبا الوفاء ابن عقيل الذي جالس المعتزلة وتأثر بهم ووافقهم في بعض ما ذهبوا إليه ومع هذا كان موضع التجلة والتقدير من الحنابلة وغيرهم من علماء الأمة...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (درء تعارض العقل والنقل) ٨/ ٦٠, ٦١: ولابن عقيل أنواع من الكلام فإنه كان من أذكياء العالم , كثير الفكر والنظر في كلام الناس فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية , وينكر علي من يسميها صفات ويقول: إنما هى إضافات موافقة للمعتزلة كما فعله في كتابه (ذم التشبيه وإثبات التنزيه) وغيره من كتبه واتبعه علي ذلك أبو الفرج ابن الجوزى في (كف التشبيه بكف التنزيه) وفي كتابه (منهاج الوصول) وتارة يثبت الصفات الخبرية, ويرد علي النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات , وتارة يوجب التأويل كما فعله في كتابه الواضح وغيره وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه كما فعله في كتابه (الانتصار لأصحاب الحديث) فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم ومشكور ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم ومدحور. انتهى.
وإذا كنا نعيب علي بعض السلفيين غلوهم في تكفير بعض المسلمين المؤولين وغيرهم, أو تفسيقهم وتأثيمهم, فإنا نعيب كذلك علي بعض مخالفيهم الغلو في اتهام هؤلاء السلفيين بل أئمتهم وشيوخهم – بالضلال والمروق وتقويلهم ما لم يقولوه في دين الله ورميهم بالتجسيم والتشبيه وهم يبرأون منهما في كل ما كتبوه حتى قالوا عن الإمام الربانى علامة الأمة وشيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يجوز ولا يقبل أن يقال: بحال من الأحوال.
وإنى أشارك الأخ الشيخ شعيب الأرناؤوط كلمته التي وجهها في مقدمة تحقيقه لكتاب الشيخ مرعى (أقاويل الثقات) ووجه فيها النصح مخلصا إلي الذين قضوا شوطا من حياتهم في قراءة كتب الخلف, وتمرسوا بها, ولم يدخروا شيئا من الوقت للنظر في الكتب لاتى تناولت مذهب السلف بالبيان والشرح وعرضته بأمانة وصدق ودللت علي صحته بالأدلة العقلية النقلية المقنعة, حتى يتاح لهم المقارنة بين المذهبين واختيار ما هو أحكم وأسلم وأعلم لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم ولأتباعهم الذين يأخذون عنهم لو أنهم يتأثرون بهم ولكانوا يكفون ألسنتهم عن تقويل العلماء الثبات الذين انتهجوا منهج السلف وألفوا فيه ودافعوا عنه ما لم يقولوه وإلزامهم بتلك الأقوال التي نسبوها إليهم والحكم عليهم بموجب تلك الإلزامات بالكفر والمروق والشذوذ.
مع أن هؤلاء الأئمة ينفون تلك الإلزامات بصريح القول ومنطوقه في كتبهم التي تناولوا فيها مسألة الصفات وغيرها من مسائل الإعتقاد.
وأهل العلم متتفقون علي أنه لا يجوز التكفير باللوازم لا سيما إذا كان المطعون فيه يصرح بنفيها وردها.
ولا أدرى كيف يجرؤ طالب العلم علي الحكم بالكفر والمروق والشذوذ علي من كان له سابقة فضل في الإسلام وأهله بما حباه الله من علم وفضل وتقوى, وبما دبجته براعته من العلوم المختلفة النافعة التي تحيى موات القلوب وتبصر الناس بمراشد الحق ومهيع الصدق مع أنه ليس له مستند في الحكم عليه وحقد وأقامها علي الوجه الذي يروق له بغية التشويه والتهويش وتنفير الناس من علمه وإضعاف الثقة به.
ومما يزيد الطين بلة أن هؤلاء الطلبة يتشبثون بتلك الأقوال , ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث في مراجعتها في مظانها الموثوقة, ليتبين لهم وجه الحق وقول الصدق, وليشهدوا بأنفسهم تدليس هؤلاء الحاقدين وتحريفهم وافتراءهم
وهم إلي ذلك لا يلقون بالا ولا يعيرون اهتماما لما حكاه العلماء الثقات لاذين عاصروا ذلك الإمام وخالطوه في بيان عظم إمامته في الدين والعلم والفضل والصلاح والسداد والاستقامة.
وما أظن أن أى طالب علم يستشعر خوف الله, ويتحلي بالتقوى والإنصاف يرتضى لنفسه أن يقف إلي صف هذا النفر الذي يمضى علي غير هدى ويلتمس للبرآء العيب , ويتهالك عصبية وحقدا (ربنا اغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) (سورة الحشر: ١٠)
اتباع نهج القرآ في عدم التجميع
وأريد أن أنبه عنا علي حقيقة ذات أهمية كبيرة في قضية الصفات والإيمان بها وتعليمها للناس علي مذهب السلف.
وتلك الحقيقة: أن تعرض هذه الصفات كما وردت في كتاب الله تعالي وسنة رسول صلي الله عليه وسلم أعنى: أن تذكر مفرقة لا مجموعة فكل مسلم مؤمن بها ويثبتها لله تعالي كما جاءت.
فليس مما يوافق الكتاب والسنة جمعها في نسق واحد يوهم تصور ما لا يليق بكمال الله تعالي. كما يقول بعضهم: يجب أن تؤمن بأن لله تعالي وجها وأعينا, ويدين, وأصابعو وقدما , وساقا... الخ فإن سياقها مجتمعة بهذه الصورة قد يوهم بأن الله تعالي وتقدس كل ركب من أجزاء, أو جشم مكون من أعضاء..
ولم يعرضها القرآن لاكريم ولا الحديث الشريف بهذه الصورة. ولم يشترط الرسول لدخول أحد في الإسلام أن يؤمن بالله تعالي بهذا التفصيل المذكور.
ولم يرد أنا الصحابة وتابعيهم بإحسان كانوا يعلمون الناس العقيدة بجمع هذه الصفات ما تجمع في الكتب المؤلفة في ذلك.
ولكن المسلم إذا قرأ القرآن الكريم أو الحديث الصحيح, انتهى إلي آية مشتملة علي صفة من هذه الصفات أو إلي حديث من هذا النوع, آمن به كما ورد دون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وبهذا يكون سلفيا حقا, لأمة لم يعد ما كان عليه الصحابة والتابعون وخير القرون في هذه الأمة.
الإخوان والأشاعرة
واتهام الإخوان بأنهم من الأشاعرة لا ينتقص من قدرهم فالأمة الإسلامية في معظمها أشاعرة أو ماتريدية. فالمالكية والشافعية أشاعرة. والحنفية ماتريدية.
والجامعات الدينية في العالم الإسلامى أشعرية أو ماتريدية: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب , وديوبند وغيرها من المدارس والجامعات الدينية.
فلو قلنا: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة, لحكمنا بالضلال علي الأمة كلها , أو جلها ووقعنا فيما تقع فيه الفرق التي نتهمها بالانحراف.
ومن ذا الذي حمل لواء الدفاع عن السنة ومقاومة خصومها طوال العصور الماضية غير الأشاعرة والماتريدية؟
وكل علمائنا وأئمتنا الكبار كانوا من هؤلاء الباقلانى الاسفرايينى إمام الحرمين الجوينى أبو حامد الغزالي الفخر الرازى البيضاوى الآمدى, الشهرستانى, البغدادى, ابن عبد السلام , ابن دقيق العيد, ابن سيد الناس, البلقينى , العراقي, النووي, الرافعي , ابن حجر العسقلاني, السيوطي , ومن المغرب: الطرطوشى والمازرى والباجى وابن رشد (الجد) وابن العربى والقاضى عياض والقرطبى والقرافي والشاطبى وغيرهم.
ومن الجنفية الكرخى والجصاص والدبوسى والسرخسى والسمرقندي والكاسانى وابن الهمام وابن نجيم والتفتازانى والبزدوى وغيرهم.