قال الرازى في كتابه “ أساس التقديس”:“ ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا علي سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات علي التفصيل وإن لم نجز التأويل فوضنا العلم بها إلي الله تعالي فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات وبالله التوفيق”.
وخلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقنا علي أن المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق وهو تأويل في الجملة, واتفقا كذلك علي أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع وهو هين كما ترى وأمر لجأ إليه بعض السلف أنفسهم.
وأهم ما يجب أن نتوجه إليه همم المسلمين الآن توحيد الصفوف وجميع الكلمة ما استطعنا إلي ذلك سبيلا والله حسبنا ونعم الوكيل) انتهى.
أوجه اعتراض الإخوة السلفيين علي البنا:
والإخوة السلفيون – عفا الله عنا وعنهم – يعترضون علي كلام الإمام البنا من عدة أوجه:
الأول: أنه اعتبر موقف السلف هو السكوت عن بيان المعنى وتفويض معرفته إلي الله تبارك وتعالي فالبشر أعجز من أن يحيطوا بصفاته عزوجل وهم ينكرون نسبة هذا التفويض إلي السلف يقولون: إن موقف السلف هو الإثبات وليس التفويض.
والثانى: محاولته التقريب بين الموقفين, وأن الشقة ليست بعيدة جدا بينهما لأن موقف السلف فيه تأويل في الجملة.
والثالث: هو عدم تأثيم وتضليل المؤولين من الخلف والتماس الأعذار لهم مع خروجهم عن سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم بإحسان.
وسأبين فيما يلي سلامة موقف الشيخ البنا رحمه الله وأنه لم يجاوز الصواب فيما ذهب إليه من هذه الأوجه وأنه لم يبتدع هذا الكلام من عنده بل هو متبع الأئمة كبار وصلوا إلي ما وصل إليه.
التفويض والإثبات:
أما الوجه الأول , وهو نسبى التفويض إلي السلف فليس هذا موقف البنا وحده إنما هو الموقف المروى عن كثير من الأئمة والعلماء الكبار.
وقد بين ذلك بوضوح وتفصيل علامة الحنابلة في عصره الشيخ مرعى بن يوسف ألكرمي المقدسي الحنبلي المتوفي سنة (١٠٣٢هـ) وذلك في كتابه القيم (أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات) فقد قال بعد كلام عن المحكم والمتشابه والتأويل وعدمه:
(إذا تقرر هذا فاعلم: أن من المتشابهات , آيات الصفات التي التأويل فيها بعيد فلا تؤول ولا تفسر.
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث علي الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلي الله تعالي ولا تفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقيتها.
فقد روى الإمام اللالكائى الحافظ عن محمد بن الحسن قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلي المغرب علي الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقد روى اللالكائى أيضا في السنة بسنده عن أم سلمة رضى الله عنها في قوله تعالي: (الرحمن علي العرش استوي) طه:٥ قالت:“ الاستواء معلوم, والكيف مجهول , والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والبحث عنه كفر”.
وهذا له حكم الحديث المرفوع لأن مثله لا يقال من قبيل الرأى.
وقال الإمام الترمذى في الكلام علي حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثورى وابن المبارك, ومالك , وابن عيينه ووكيع وغيرهم أنهم قالوا: نروى هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن بها ولا يقال: كيف؟ ولا نفسر ولا نتوهم.
قال الشيخ مرعى:
وذكرت في كتابى (البرهان في تفسير القرآن) عند قوله تعالي: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) البقرة: ٢١٠) وبعد أن ذكرت مذاهب المتأولين-: أن مذهب السلف هو عدم الخوض في مثل هذا والسكوت عنه وتفويض علمه إلي الله تعالي.
قال ابن عباس:“ هذا من المكتوم الذي لا يفسر” فالأولي في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلي الله تعالي وعلي ذلك مضت أئمة السلف.
وكان الزهرى ومالك والاوزاعى وسفيان والليث بن سعد وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقولون في هذه الآية وأمثالها: أمروها كما جاءت.
وقال سفيان بن عيينة وناهيك به: كل واصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قرأءته, والسكوت عنه ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله
وسئل الإمام ابن خزيمة عن الكلام في السماء والصفات فقال: ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب أئمة الدين مثل مالك وسفيان والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك وأبى حنيفة ومحمد ابن الحسن وأبى يوسف يتكلمون في ذلك, وينهون أصحابهم عن الخوض فيه ولونهم علي الكتاب والسنة.
وسمع الإمام أحمد شخصا يروى حديث النزول ويقول ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا تغير حالك فأنكر أحمد ذلك وقال قل كما قال رسول صلي الله عليه وسلم فهو كان أغير علي ربه منك! انتهى
فهذه النقول كلها تدل بجلاء علي أن السلف لم يكونوا يخوضون في تفسير هذه النصوص بل كانوا يسكتون عنها ويمرونها كما جاءت ويفوضون معناها إلي الله تبارك وتعالي لعلمهم ان عقل الإنسان مجدود وعلمه قاصر وقد قال تعالي (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) .
التقريب بين السلف والخلف:
وأما محاولة التقريب بين السلف فليس الأستاذ البنا أول من حاول ذلك فقد وجدنا أن كبار القدامى والمحدثين من اجتهد في ذلك ومنهم العلامة الواسطى السلفي الصوفي (ت٧١٢هـ) الي كان الإمام ابن تيمية يسميه (جنيد زمانه) في رسالته (النصيحة) وقد تحدث فيها عن معنى (العلو) و (الفوقية) التي يثبتها السلف لله تعالي فقال كلاما في غاية الروعة والقوة وقرب هذا الأمر تقريبا كاد يذيب الفوارق بين الفريقين.
وقد نقل خلاصة ذلك العلامة السفارينى الحنبلي (ت١١٨٨هـ) في كتابه الشهير في العقائد (لوامع الأنوار الإلهية) ونقلها عنه مؤيدا: العلامة السيد رشيد رضا في (تفسير المنار) في تفسير الاية السابعة من سورة آل عمرآن. ثم قال: إن ما ذكر يشبه تأويل المتكلمين في قولهم: إن العلو علو المرتبة أو هو هو! وأقرأ الشيخ رشيد أنه يتفق معه في الجوهر ولكنه يفارقه بعدم حظر استعمال ما جاءت به النصوص للعامة والخاصة مه اعتقاد التنزيه. انتهى.
المسافة غذت ليست بعيدة بين الفريقين كما يتصور بعض الكاتبين أو يتصورون من المتحمسين من كلا الفريقين.
ونقرأ للمصلح السلفي العلامة جمال الدين القاسمي (ت ١٣٣٢هـ) في تفسيره المعروف (محاسن التأويل) قوله: قال ابن كثير في قوله تعالي في سورة الفجر: (وجاء ربك والملك صفا صفا) الآية: ٢٢ أى وجاء الرب تبارك وتعالي لفصل القضاء كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفا صفوفا.
وسبقه ابن جرير إلي ذلك وعضده بآثار عن ابن عباس وأبى هريرة والضحاك في نزوله تعالي من السماء يومئذ في ظلل من الغمام والملائكة بين يديه وإشراق الأرض بنور ربها.
ومذهب الخلف في ذلك معروف من جعل الكلام علي حذف مضاف للتهويل أى جاء أمره وقضاؤه. أو استعارة تمثيلية لظهور عساكره كلها وورائه وخواصه عن بكره أبيهم. انتهى.
قال العلامة القاسمى معلقا:
وكان الخلاف بين المذهبين لفظى غذ مبنى الخلف علي أن الظاهر غير مراد.
ويعنون بالظاهر: ما للخلق مما يستحيل علي الخالق فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق بل هو ما يتبادر إلي فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالي كما أنها لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات. لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما فهى حقيقة بالنسبة إليه سبحانه علي ما يليق به كالعلم والقدرة ولا تمثيل ولا تعطيل.
قال الإمام ابن تيمية رضى الله عنه: واعلم أن من المتأخرين نم يقول: إن مذهب السلف إقرارها علي ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل. فإن قوله (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه راد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين. مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي, أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه, و (إن الله معنا) ظاهره أنه إلي جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير مراد, فقد أصاب في المعنى, لكن اخطأ في إطلاق القول بان هذا ظاهر الايات والأحاديث. فإن هذا المحال ليس هو الظاهر, علي ما قد بيناه في غير هذاالموضع اللهم إلا أن يكون عذاالمعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية. انتهى
وقد بسط رحمه الله الكلام علي ذلك في (الرسالة المدنية) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.