جرّه لأنه صار كأنه قال: لأن، ومثله قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى
… ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (1)
لما كان الأول تستعمل فيه (الباء) ولا تغير المعنى، وكانت مما يلزم الأول، نونّها في الحرف الآخر، حتى كأنهم تكلموا بها في الأول. وكذلك صار (لم آتك) بمنزلة لفظهم (فلم يكن إتيان) لأن المعنى واحد.
واعلم أن ما ينتصب في باب (الفاء) قد ينتصب على غير معنى واحد، وكان ذلك على إضمار (أن) إلا أن المعاني مختلفة، كما أن (يعلم الله) يرتفع كما يرتفع (يذهب زيد)، و (علم الله) ينتصب كما ينتصب (ذهب زيد)، وفيهما معنى اليمين.
والنصب هاهنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيان فأن تحدّث، والمعنى على غير ذلك، كما أن معنى (علم الله لأفعلن) غير معنى (رزق الله)، ف (أن تحدّث) في اللفظ مرفوع ب (يكن)، لأن المعنى: لم يكن إتيان فيكون حديث.
وتقول: ما تأتينا فتحدثنا، فالنصب على وجهين من المعاني:
أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني؟ أو لو أتيتني لّحدثتني.
وأما الآخر: فما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك.
وإن شئت شركت بين الأول والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول، فتقول: ما تأتيني فتحدثني فكأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني.
فمثل النصب قول الله- تبارك وتعالى-: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا (2)، ومثل الرفع قوله- سبحانه-: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (3) أي:
وما يعتذرون.
وإن شئت رفعت على وجه آخر، كأنك قلت: فأنت تحدّثنا، ومثل ذلك قول بعض الحارثيين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين
… فنرجّي ونكثر التأميلا (4)
وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا، فالنصب فيه كالنصب في الأول؛ وإن شئت رفعت