باب التقديم والتأخيرقال أبو سعيد: اعلم أن الشاعر قد يضطر حتى يضع الكلام في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيزيله عن قصده الذي لا يحسن في الكلام غيره، ويعكس الإعراب، فيجعل الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا، وأكثر ذلك فيما لا يشكل معناه.
فمن ذلك قول الأخطل:
أمّا كليب بن يربوع فليس لها
… عند المفاخر إيراد ولا صدر
مثل القنافذ هدّا جون قد بلغت
… نجران أو بلغت سوآتهم هجر (1)
أراد: بلغت نجران سوآتهم أو هجر، وذلك وجه الكلام؛ لأن السّوآت تنتقل من مكان فتبلغ مكانا آخر، والبلدان لا ينتقلن، وإنّما يبلغن ولا يبلغن.
وقال النمر بن تولب:
فإنّ المنيّة من يخشها
… فسوف تصادفه أينما
وإن أنت حاولت أسبابها
… فلا تتهّيبك أن تقدما
أراد: فلا تتهيّبها؛ لأنّ المنيّة لا تهاب أحدا. وقال آخر وهو ابن مقبل:
ولا تهيّبني الموماة أركبها
… إذا تناوحت الأصداء بالسّحر (2)
أراد: ولا أتهيّب الموماة. وقال آخر:
كانت فريضة ما تقول كما
… كان الزّناء فريضة الرّجم (3)
ويروى: كما كان الزّناء يحدّ بالرّجم. أراد: كما كان الرّجم فريضة الزّناء.
وليس هذا من جعل المفعول فاعلا، ولكنه حذف اسم كان وهو " فريضة "، وأقام مقامها ما كانت مضافة إليه، وهو " الزّناء " وجعل فريضة الرجم هي خبر كان، وهو كلام على نظمه، وتلخيصه: كما كان فريضة الزنا فريضة الرّجم؛ لأنّ الفريضة هي الواجبة والذي يجب بالزنا هو الرجم، فأضفت الفريضة إلى الزنا وإلى الرجم جميعا؛ لأنها من أجل الزنا تجب، والواجب هو الرّجم، فأضيف إلى الشيء وإلى سببه، وحذف من الأول وأقيم