وقوله: " قد كفّرت آباؤها أبناؤها "، فآباؤها يرتفع بكفرت، ومعناه: لبست السلاح وتغطت به، ويرتفع " أبناؤها " بتشاجر، كما يرتفع الفاعل بالمصدر، كأنه قال: حرب تردّد بينهم بأن يتشاجر أبناؤها فلبست الآباء السلاح
بتشاجر الأبناء، وقد كان ينبغي أن لا يفرق بين ما قد ارتفع بتشاجر وبين تشاجر بقوله: " قد كفرت "؛ لأن ما يعمل فيه المصدر بمنزلة الصلة فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
وفي هذين البيتين وجه أقرب من هذا من غير ضرورة، وهو أن يجعل " حلماؤها " ابتداء و " سفهاؤها " خبرا له، ومعناه أن حليمهم صار سفيها، وكذلك " أبناؤها " و " آباؤها " مبتدأ وخبر، يعني من طول ترددها قد صارت أصاغرها، ومن نشأ فيها، كبارا. قال الفرزدق:
فليست خراسان الّتي كان خالد
… بها أسد إذ كان سيفا أميرها
فهذا البيت يدخله النحويون في ضرورة الشعر، ويذكرون أنه يمدح " خالدا " ويذمّ " أسدا، وكانا واليين بخراسان، و " خالد " قبل " أسد "، وتقديره: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها، ويكون رفع " أسد " بكان الثانية، و " أميرها " نعت له، وكان في معنى وقع، ويجوز أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن، ويكون " أسدا " و " أميرها " مبتدأ وخبرا في موضع خبر الضمير.
وقال أبو سعيد: وهذا عندي كلام فاسد؛ لأن الاسم لا يرتفع بكان وهو قبله، والمعنى فيه على غير ما قدّروه، وليس في البيت ضرورة، على أنّا نجعل " أسدا " بدلا من " خالد " ونجعله هو خالد، على سبيل التشبيه له بالأسد، فكأنه قال: فليست خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفا أميرها، وتجعل " سيفا " خبرا لكان الثانية، وتجعل " أميرها " الاسم، وإن شئت جعلت في كان الثانية ضميرا من أسد وجعلت أميرها بدلا من الضمير و " سيفا " هو الخبر.
وقال الفرزدق:
وترى عطيّة ضاربا بفنائه
… ربقين بين حظائر الأغنام
متقلّدا لأبيه كانت عنده
… أرباق صاحب ثلّة وبهام (1)