ثُمَّ جَاوَزَ مَرَاتِبَهُمْ كُلَّهُمْ، حَتَّى ظَهَرَ لِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ وَرُفِعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَنَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَغَشِيَهَا عِنْد ذَلِك أُمُور عَظِيمَة وألوان مُتَعَدِّدَةٌ بَاهِرَةٌ، وَرَكِبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ عَلَى الشَّجَرَة كَثْرَةً، وَفَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَغَشِيَهَا مِنْ نُورِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
* * * وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى.
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى.
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى.
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغى " أَيْ مَا زَاغَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي حُدَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ الْعَظِيمُ وَالْأَدَبُ الْكَرِيمُ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الثَّانِيَةُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَالْأُولَى هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى.
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى.
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.
فَأَوْحَى إِلَى عَبده مَا أوحى " وَكَانَ ذَلِكَ بِالْأَبْطَحِ، تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي التَّفْسِيرِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا قَوْلُ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: " ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ
فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى " فَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي فَأَقْحَمَهُ فِي الْحَدِيثِ (1) وَالله أعلم.