فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟
فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصَّمَّاءِ (1) ، وأن يَحْتَبِيَ في ثوب واحد مُفْضِيًا بِفَرْجِه
ص: 350 إلى السماء، وأنه أمر غُلاماً أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل مِن أعلى الصَّحْفَةِ، ويُرْوَى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يَقْرُِن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكْشِف التمْرة عمَّا في جَوْفِها، وأنْ يُعَرِّسَ على ظهر الطريق.
ص: 351 فَلما كان الثوب مباحاً لِلاَّبِسِ، والطعامُ مباحًا لآكِلِه، حتى يأتيَ عليه كلِّه إنْ شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شَرَعاً، (2) فهو نُهِيَ فيها عن شيء أن يفعله، وأُمِر فيها بأن يفعل شيئاً غير الذي نُهِيَ عنه.
والنهي يدل على أنه إنما نَهَى عن اشتمال الصماء والاحتباء مُفضياً بفرجه غيرَ مُسْتَتِرٍ: أنَّ في ذلك كشفَ عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيُهُ عن كشف عورته نهيَه عن لُبس ثوبه فيحرمَ عليه لبسُه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.
ص: 352 ولم يكن أمْرُه أن يأكل مِن بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحاً له أن يأكل ما بين يديه وجميعَ الطعام: إلاَّ أدَبًا في الأكل من بين يديه، لأنه أجملُ به عند مُوَاكِلِه، وأبعَدُ له من قُبْح الطَّعْمَة والنَّهَم، وأَمَره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يُبارَك له بَرَكَةً دائِمة يدوم نزولها له، وهو يبيحُ له إذا أكل ما حوْلَ رأس الطعام أن يأكل رأسه.
وإذا أباح له المَمَرَّ على ظهر الطريق فالممرُّ عليه إذْ كان مُباحاً
ص: 353 لأنه لا مالِكَ له يمنع الممر عليه فيحرُم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يُثْبِت نظراً له، فإنه قال: " فَإِنَّهَا مَأْوَى الهَوَامِّ، وَطُرُقُ الحَيَّاتِ " (3) ، على النظر له، لا على أن التعريس محرَّم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق مُتَضايقاً مسْلوكاً، لأنه إذا عرَّس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.