فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأوَّل؟
قيل له: مَن قامت عليه الحجة يَعْلَم أن النبي نهى عمَّا وصفْنا، ومَنْ فَعَل ما نُهِيَ عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاصٍ بفعله ما نُهِيَ عنه، وليَسْتَغْفِرِ الله ولا يَعودُْ (1) .
فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرتَ في الكتاب
ص: 354 قبْله في النكاح والبيوع عاص، فكيْف فرَّقْتَ بين حالهما؟
فقلتُ: أمَّا في المعْصِية فلم أفرِّقْ بينهما، لأنِّي قد جعلتهما عاصيين، وبعضُ المعاصِي أعظمُ مِنْ بعض.
فإن قال: فكيف لم تُحَرِّمْ على هذا لُبْسَهُ وأكلَه ومَمَرَّه على الأرض بمعصيته، وحرَّمْتَ على الآخر نِكاحَه وبيعه بمعصيته؟
قيل: هذا أُمِرَ بِأمْرٍ في مباحٍ حلال له، فأحللْتُ له ما حلَّ له، وحرَّمتُ عليه ما حُرِّم عليه، وما حرِّم عليه غيرُ ما أُحل له، ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال، ولكن تُحَرِّم عليه أن يفعل فيه المعصيةَ.
فإن قيل: فما مثل هذا؟
قيل له: الرجل له الزوجة والجارية، وقد نُهِيَ أنْ يَطَأهما حائضتين وصائمتين، ولوْ فَعَلَ لم يحلَّ ذلك الوطء له
ص: 355 في حاله تلك، ولم تُحَرَّمْ واحدة منهما عليه في حالٍ غير تلك الحال، إذا كان أصلُهُما مباحاً وحلالاً.
وأصلُ مال الرجل محرَّم على غيره إلا بما أبيح به مما يَحِلُّ، وفروجُ النساء محرمات إلا بما أُبيحتْ به مِن النكاح والمِلْك، فإذا عقد عُقْدة النكاح أو البيع مَنْهِيًّا عنها على محرَّم لا يَحِلُّ إلا بما أُحلَّ به، لم يَحِلَّ المحرَّمُ بِمُحَرَّمٍ، وكان على أصل تحريمه، حتى يؤتى بالوجه الذي أحلَّه الله به في كتابه، أو على لسان رسوله، أو إجماع المسلمين، أو ما هو في مثل معناه.
قال: وقد مَثَّلْتُ قبْل هذا: النهيَ الذي أُريد به غيرُ التحريم بالدلائل، فاكْتَفَيْتُ مِن ترْدِيدِه، وأسأل الله العِصْمة والتَّوْفيق.