فقال: فكيف الاجتهاد؟
فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقول، فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالةً.
قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً؟
قلت: نَصَبَ لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتَأَخِّيه إذا غابوا عنه، وخَلَقَ لهم سماء وأرضاً وشمساً وقمرا ونجوماً وبحاراً وجبالاً ورياحاً.
ص: 502 فقال: {وهو الذي جَعَلَ لكم النجومَ لتهتدوا بها في ظلمات البر ِّوالبحرِ} الأنعام 97
وقال: {وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون} النحل 16
فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات.
فكانوا يعرفون بمنِّه جهة البيت بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم من لم يره، وأبصر ما يُهتَدَى به إليه، من جَبَل يُقصد قَصده، أو نجمٍ يُؤْتمّ به وشمال وجنوبٍ، وشمسٍ يُعرف مَطلِعُها ومَغرِبها، وأين تكون من المصلَّى بالعشي، وبحورٍ كذلك.
وكان عليهم تَكَلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي رَكَّبها فيهم، ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها.
ص: 503 فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل، بعد استعانة الله، والرغبةِ إليه في توفيقه، فقد أدَّوا ما عليهم.
وأبان لهم أن فرْضَه عليهم التوجُّه شطر المسجد الحرام، والتوجه شطره لا إصابةُ البيت بكل حال.
ولم يكن لهم إذا كان لا تُمْكنهم الإحاطة في الصواب إمكانَ مَن عايَنَ البيت: أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دلالة.