حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُجُوعَ١ التَّرْكِ إِلَى الِاخْتِيَارِ، كَالْفِعْلِ، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِنَفْسِ التَّرْكِ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُطِيعًا، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ٢ مُحَالٌ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ مُعَارَضٌ بِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ سَبَبٌ فِي مَضَارَّ كَثِيرَةٍ:
- مِنْهَا: أَنَّ فِيهِ اشْتِغَالًا عَمَّا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ، وَصَدًّا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ.
- وَمِنْهَا: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الِاشْتِغَالِ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى الممنوعات؛ لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضرواة الْخَمْرِ، وَبَعْضُهَا يَجُرُّ إِلَى بَعْضٍ، إِلَى أَنْ تَهْوِيَ بِصَاحِبِهَا فِي الْمَهْلَكَةِ٣، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
- وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِذَمِّ الدُّنْيَا، وَالتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الْأَحْقَافِ: ٢٠ .
وَقَوْلِهِ : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} هُودِ: ١٥ .
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْكُمُ ٤ الدُّنْيَا كَمَا فُتِحَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ" ٥ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: "إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ
١ حتى صح أن تعلق به مقاصد الشرع وتبنى عليه الأحكام "د".
٢ لأنه يقتضي أن يكون الشيء مقصود الفعل للشارع لحفظ المصلحة، ومقصود الترك له أيضا لحفظها، حتى تعلق بكل منهما حكمه، وهو طلب الفعل والترك؛ فيعد المكلف مطيعا لهما. "د".
٣ في "ط": "الهلكة".
٤ في الأصل: "لكم".
٥ أخرجه البخاري في "الصحيح" "كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، ٦/ ٢٥٧/ رقم ٣١٥٨، وكتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، ٧/ ٣١٩/ رقم ٤٠١٥، وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، ١١/ ٢٤٣/ رقم ٦٤٢٥"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الزهد، باب منه، ٤/ ٢٢٧٣-٢٢٧٤"، وأحمد في "المسند" "٤/ ١٣٧"، والترمذي في "الجامع" "٤/ ٦٤٠/ رقم ٢٤٦٢"، وابن ماجه في "السنن" "٢/ ١٣٢٤/ رقم ٣٧٩٧"، والبيهقي في "الدلائل" "٦/ ٣١٩"، من حديث عمرو بن عوف, رضي الله عنه.