والمعنى: أن من ذهب إلى أن إعجازه إنما هو بسبب إخباره عن المغيبات الواقعة في الكائنات فلم تقع عينه على عين المقصود، ولا على أثره المحمود، ثم بين وجه فساده وطريق كساده من وجهين بقوله:
١٧ - إن الغيوبَ بإذن الله جاريةٌ … مدى الزمان على سُبْل جَلَت سُوَرا
"المدى" كالفتى؛ الغاية، و"سبْل" بسكون الموحدة؛ لغة وقراءة (١).
والمعنى: أن من قال: إعجازُه إخبارُه عن الغيب فباطل من طريقين:
أولهما: أن غيوب القرآن ما وقع كلُّها في زمنه -صلى الله عليه وسلم- بل وقع بعضُها في تلك الأيام، وبعضُها جرى في غاية الزمان على وَفْقِ المرام، وشرطُ حصولِ المعجزِ أن لا يكون في المستقبل (٢) فلو كان إعجازه بإخباره عن المغيبات، لما ثبت التحدي بالآيات البينات، ولنازعوا في وقوع المتوقعات.
وثانيهما: أن إخباره عن الغيوب ليس في سور القرآن عامة بل على طرق خاصة ظهرت لنا تلك الطرق في سور اختصت باشتمالها على تلك المغيبات، فلو كان إعجازه مخصوصًا بتلك الآيات (٣)، لعارضوه بقدر أقصر سورة من تلك الكلمات (٤)، لأنه -صلى الله عليه وسلم- تحدى بسورة غير معينة في ميدان المعارضات، وهم قد عجزوا في جميع الحالات، وأيضًا لو كان إعجازه بمجرد الإخبار عن المغيبات لما خُصَّ القرآن بكونه معجزًا لوجود الإعلام بالأمور الغيبية في سائر الكتب الإلهية بل في الأحاديث النبوية.
(١) قرأ أبو عمرو: {وَقَدْ هَدَانَا سُبْلَنَا} إبراهيم: ١٢ و {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبْلَنَا} العنكبوت: ٦٩ قال في النشر ٢/ ٢١٦: (وأسكن الباء من "سُبْلنا" وهو في إبراهيم والعنكبوت: أبو عمرو) وقال في الكشف ١/ ٤٠٨: (قرأه أبو عمرو بإسكان … الباء حيث وقع إذا كان بعد اللام حرفان في الخط على التخفيف لتوالي الحركات ولأنه جمع).
(٢) أي: أصل الحصول لا استمراره بدليل أكبر معجزة وهو هذا القرآن فإن الإعجاز به لا يزال حاصلًا أبد الدهر بل يتجدد بتجدد الزمان كما تقرر في أوجه إعجازه.
(٣) أي: المشتملة على الإخبار بالمغيبات. والتي هي في بعض السور لا كلها.
(٤) أي: غير المشتملة على الإخبار بالمغيبات.