سائر الأمصار يتكسبون بهذا، فلا ينكره مستحسن في حق الله تعالى، فدل على انعقاد الإجماع به، وارتفاع الخلاف فيه.
ولأن الحاجة إليه داعية، والضرورة إليه ماسة؛ لأنه لا يقدر الإنسان على حجامة نفسه إذا احتاج، وما كان بهذه المنزلة لم يمنع منه الشرع، لما فيه من إدخال الضرر على الخلق، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"، ولأن كل كسب حلّ للعبيد حلّ للأحرار كسائر الأكساب.
فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كسب الحجام خبيث" فهو أن اسم الخبث يتناول الحرام تارة والدنيء أخرى كما قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} البقرة: 267 يعني الدنيء وكقوله من بعد: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} البقرة: 267 فيحمل على الدنيء دون الحرام؟ بدليل ما قلناه، وليس هو إلى الحرام بموجب لاشتراكهما في حكم التحريم؛ لأنه لما ضم إلى ما يحرم على الأحرار والعبيد، وهذا لا يحرم على العبيد؛ فجاز أن لا يحرم على الأحرار.
فصل:
فإذا ثبت أنه ليس بحرام، فهو مكروه، واختلف أصحابنا في علة كراهته على وجهين:
أحدهما: لمباشرة النجاسة لقول الله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} المدثر: 5: فعلى هذا يكره كسب كل مباشر للنجاسة من كناس، وخراز وقصاب.
واختلف قائل هذا، هل يكون كسب الفصاد من جملتهم؟ على وجهين:
أحدهما: يكون من جملتهم، لأنه يباشر نجاسة الدم.
والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يكره كسبه، لاقترانه بعلم الطب، فإنه قل ما يباشر نجاسة الدم.
فأما الختان، فمكروه الكسب كالحجام، بل يزيد عليه في مباشرة العورات، وتكون الكراهة مقصورة على مباشرة الأنجاس، ومنتفية عمن لا يبارها من سماك ودباغ.
والثاني: أن كراهة التكسب به لدناءته، وهو الظاهر من مذهب الشافعي؛ لأنه جعل من المكاسب دنيئاً وحسناً، وقد روي أن ذا قرابة لعثمان بن عفان رضي الله عنه قدم عليه، فأله عن كسبه، فقال: غلة حجام أو حجامين، فقال: إن كسبكم لدنيء أو قال: لوسخ فعلى هذا يكره مع ذلك كسب السماك، والدباغ، والحلاق والقيم.
واختلف على هذا في كسب الحجامين على وجهين:
أحدهما: مكروه، دنيء لأنه يشاهد العورات ويتكسب بحران غير مقدر.
والثاني: لا يكره كسب، لأنه لا يباشر عملاً، ويمكنه غض طرفه عن العورات وليس يتكسب بمباشرتها؛ فإن أرسل طرفه صار كغيره من الناس.