والثانى: أن استعمالها فيما عدا المذكور يوجب زيادة حكم، ومحال أن تكون علة واحدة توجب نقصان الحكم من المذكور والزيادة عليه لتضاد الموجبين. لأن أحدهما إسقاط حكم ونفيه، والآخر إيجاب حكم وإثباته. فإن قيل ما لا يمكن كيله غير مراد بالنص لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلاً بكيل. فلما كان الاستثناء مكيلاً وجب أن يكون المستثنى منه مكيلاً لأن حكم المستثنى منه يجب أن يكون كحكم الاستثناء، فصار تقدير ذلك، لا تبيعوا البر المكيل بالبر المكيل إلا كيلاً بكيل، فعلم أن ما ليس بمكيل ولا يمكن كيله غير مراد بالنص. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الاستثناء يجب أن يكون بعض المستثنى منه ولا يكون كل المستثنى منه. ألا ترى أنه لو قال: جاءني الناس إلا بني تميم لم يقتض أن يكون كل الناس بني تميم فكذا إذا كان الاستثناء كيلاً لم يجز أن يكون كل المستثنى منه مكيلاً.
والثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر" عام في الحظر، وقوله إلا كيلاً بكيل خاص في الإباحة، وعلة الربا مستنبطة من الحظر لا من الإباحة، فاقتضى أن يكون ما أوجبته من حكم الحظر عاماً في القليل والكثير.
والثالث: أن قليل التمر والبر موصوف بأنه مكيل؛ لأن له حظاً في المكيال ألا ترى أنه لو احتاج وفاء المكيال إلى تمرة فتم بها تم الكيل وحل البيع. فلولا أن التمرة مكيلة ما تم المكيال بها وهم أولى الناس بهذا القول. لأنهم يقولون إن القدح العاشر بانفراده هو المسكر. فكذلك التمرة الواحدة بانفرادها هي التي تم المكيال بها. فإن قيل فيختص عموم الظاهر بالقياس فنقول: لأنه مما لا يكال ولا يوزن فوجب ألا يثبت فيه الربا كالثياب. قلنا: نحن نعارضكم بقياس مثله فنقول. ما ثبت الربا في كثيره ثبت في قليله كالذهب والورق. ثم نقول: قياسكم لا يجوز أن يخص به الظاهر لأن أصله مستنبط منه والظاهر لا يجوز أن يكون مخصوصاً بعلة مستنبطة منه.
فصل
فأما الجواب عن استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" وكذلك ما يكال ويوزن فهو أنها زيادة مجهولة لم ترد من طريق صحيح، وعلى أنها زيادة متأولة إذا كان ما يكال ويوزن مأكولاً أومشروباً بدليل نهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما أبيح من التساوي لا يعلم إلا بالكيل فوجب أن يكون الكيل علة الحكم. فهو أن الكيل علم الإباحة وعلة الربا مستنبطة من الحظر فلم يجز أن يكون الكيل علة الحكم.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعليلهم بكونه مكيلاً جنساً يجمع حالتي البر صفة وقدراً فهو إن جاز أن يكون هذا دليلاً لأنه يجمع حالتي البر صفة وقدراً قابلناكم بمثله فقلنا: تعليلنا بكونه مطعوماً جنساً يجمع حالتي البر صفة وجنساً. ثم يكون هذا الاستدلال أولى لأن الطعم ألزم صفة من الكيل فاقتضى أن يكون بالحكم أخص. ولا يصح قولهم بأن الجنس صفة لأن الصفة ما اختصت بالموصوف، والجنس اسم مشترك يتناول كل ذي جنس فلم يصح أن يكون صفة.