وأما الجواب عن استدلالهم بأن الكيل متفق في المكيلات والأكل مختلف في المأكولات فكان التعليل بالمتفق أولى من التعليل بالمختلف. فهو أن الأكل متفق وإنما صفة الأكل تختلف، كما أن الكيل وإن كان متفقاً وصفته قد تختلف فبعضه قد يكال بالصاع، وبعضه بالمد، وبعضه بالقفير، وبعضه بالمكوك ثم يقال: الكيل يختلف باختلاف البلدان والأكل لا يختلف فكان الأكل لاتفاق البلدان أولى أن يكون علة من الكيل المختلف باختلاف البلدان. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الطعم صفة آجلة والكيل صفة عاجلة فهو أن هذا القول فاسد، لأن البر موصوف بهذه الصفة، وإن كان يوجد بعد علاج وصنعة كما يوصف بأنه مشبع وإن كان لا يوجد إلا بعد استهلاكه بالأكل، كما يوصف الماء بأنه مروي وإن كانت صفته توجد بعد الشرب، ثم لو قيل إن الأكل أعجل صفة من الكيل لكان أولى، لأن الأكل ممكن مع فقد الآلة والكيل متعذر إلا بوجود الآلة.
وأما الجواب بأن زيادة الطعم قد توجد مع تساوي الكيل ولا تحريم ولا توجد زيادة الكيل مع تساوي الطعم إلا مع وجود التحريم فهو أن يقال: إنما يلزم هذا إذا وقع التسليم بأن التساوي يعتبر بالوزن تاماً، ونحن نقول إن التساوي يعتبر بالكيل.
فلا يلزم أن الطعم متساو فيهما وإن تفاضلا في الوزن. كما لو تساويا في الوزن وتفاضلا في الكيل كانا متفاضلين وإن تساويا في الوزن على أنه لا يستمر على مذهبهم أن علة الربا زيادة الكيل، لأنهما لو تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام كان باطلاً للجهل بالتساوي وإن لم يعلم زيادة الكيل فلما كان الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل بطل أن يكون زيادة الكيل علة.
فصل
فأما المذهب السابع وهو قول سعيد بن المسيب، والشافعي في القديم أن علة الربا مأكول مكيل أوموزون جنس احتجاجأ بأن المنصوص عليه يختص بصفتين: الأكل والكيل، وليست إحدى الصفتين أولى فاقتضى أن يكونا معاً علة الحكم، ولأن الربا إنما جعل في الأشياء التي يمكن استباحة بيع بعضها ببعض بكيل أو وزن فكان الكيل والوزن علة الحكم. وهذا غير صحيح؛ لأننا قد أبطلنا فيما مضى أن يكون الكيل علة وسنبطل أن يكون الوزن علة، وإن لم يجز أن يكونا علة لم يجز أن يكونا وصفاً في العلة فثبت أن الأكل وحده علة.
فصل
فإذا ثبت هذا فما عدا الذهب والفضة تنقسم ثلاثة أقسام: قسم فيه الربا على القولين معاً، وهو ما أكل أو شرب مما كيل أو وزن. وقسم لا ربا فيه على القولين معاً وهو ما ليس بمأكول ولا مشروب كالثياب والحيوان والصفر والنحاس.
وقسم اختلف قوله فيه وهو ما أكل أو شرب مما لا يكال ولا يوزن كالرمان، والسفرجل، والبقول والخضر، فعلى قوله في القديم لا ربا فيه، لأنه علل ما فيه الربا لأنه مأكول أو مشروب مكيل أو موزون. وعلى قوله في الجديد فيه الربا لأنه مطعوم جنس. واختلف أصحابنا هل يثبت فيه الربا على قوله في الجديد بعلة الأصل أو بعلة الأشباه.
فمن متقدمي أصحابنا من قال: إنما جعل فيه الشافعي الربا على قوله في الجديد