جاء ما رواه الشافعي بإسناده في أول الكتاب فاختلف الفقهاء في الرقبى والعمرى، فذهبه داود وأهل الظاهر، وطائفة من أصحاب الحديث إلى بطلانها استدلالًا بعموم النهي، وذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وصاحباه: إلى جوازها على ما سنذكره استدلالًا برواية قتادة عن عطا، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى جائزة ".
وروى الشافعي عن عبد الوهاب عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى لمن وهب" فأما قوله: "لا تعمروا ولا توقبوا" فقد اختلف أصحابنا إلى ماذا يوجه النهي على وجهين:
أحدهما: أنه يوجه إلى الحكم، وهذا أظهر الوجهين فيه، لأنه قال: "فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو سبيل الميراث".
والثاني: أنه يوجه إلى اللفظ الجاهلي والحكم المنسوخ على ما سنشرحه من بعد.
الفصل:
فإذا صح في الجملة جواز العمرى فقد اختلفوا هل يتوجه التمليك فيها إلى الرقبة أم المنفعة؟ على ثلاث مذاهب:
أحدهما: وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف: التمليك فيها يتوجه إلى الرقبة كالهبات.
والثاني: وهو قول مالك: أن التمليك فيها متوجه إلى المنفعة والرقبة.
والثالث: وهو قول أبي حنيفة ومالك أن التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة وفي العمرى متوجه إلى المنفعة.
والدليل على أنه تمليك بهما معًا الرقبة ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر أن وسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما وجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنه للذي يعطاها لا يرجع إلى الذي أعطاها" لأنه أعطى عطا، وقعت فيه المواريث، وما رواه الشافعي في صدر الباب عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم "جعل العمرى للوارث" ولأن لفظ العمرى والرقبى في قولهم قد جعلت داري هذه لك عمري أو رقبى متوجه إلى الرقبى لوقوع الإشارة إليها، وتعلق الحكم بها فوجب أن يتوجه التمليك إليها.