ذلك ونوى بقلبه أن يمشي إلى بيت الله الحرام لزمه على ما نواه.
وإن نذر أن يمشي إلى موضع معين ففيه مسائل: أحدها: أن ينذر المشي إلى بيت الله الحرام، وقد ذكرنا ذلك، وكذلك لو نذر الصلاة فيه يلزمه أن يأتيه ويصلي فيه؛ لأن بقعة الحرم تختص بالنسك.
الثانية: أن ينذر المشي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى، فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدهما: ينعقد ويلزم إتيانه، نص عليه في البويطي، وهو اختيار أبي إسحاق، وبه قال مالك، وأحمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" ولم يرد به الجواز؛ لأنه يجوز شد الرحال إلى سائر المساجد، فثبت أنه أراد به الوجوب، ولا وجوب إلا في هذا الموضع. وفي رواية: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد" الخبر.
والثاني: لا ينعقد نذره، وهو ظاهر النص هاهنا، ونص عليه في "الأم" لأنه قال: "واجب".
ثم قال: "وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ يَجِبَ كَمَا يَبِينُ لِي أَنَّ أَوْجِبِ المَشْيُ إِلَى بَيْتِ الَّلهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ البِرَّ بِإِتْيَانِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ، وَالبِرُّ بِإِتْيَانِ هَذَين نَافِلَةٌ".
وهذا اختيار عامة أصحابنا، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -40/ ب لما روى جابر - رضي الله عنه - أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل هنا"، قال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شأنك إذاً".
ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن قوله: "هنا" أراد في المسجد الحرام وهو أفضل فلا حجة فيه، وهذا التأويل خطأ؛ لأنه روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني نذرت أن أصلي في مسجد إيلياء، وهو المسجد الأقصى ركعتين" فقال صلى الله عليه وسلم: "صل في بيتك"، فأعاد السؤال، فقال: "أنت أعلم".
فرع
لو نذر أن يصلي ركعتين في أحد هذين المسجدين انعقد نذره، وهل تجب الصلاة فيه؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذان القولان ينبنيان على ما ذكرنا أن النذر يحمل على ما له وجوبٌ بأصل الشرع، أو على ما يتناوله اسم القربة في الجملة وفيه قولان، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتكاف يلزم بالنذر ولا أصل له في الوجوب.