أحدهما: ما كان تقييده بالوصف في ثبوت حكمه فيثبت الحكم بوجوده وينتفي بعدمه، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} المائدة: 6، فتقييد التيمم بالمرض والسفر شرطًا في إباحته، وهذا التيمم فيما كان معناه خاصًا.
والثاني: ما لا يكون بالوصف المقيد شرطًا في حكم الأصل ويعمم حكمه مع وجود الشرط وعدمه، كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} النساء: 101، وليس الخوف شرطًا في جواز القصر، وكقوله في جواز الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} المائدة: 95، ولا يكون العمد شرطًا في وجوبه.
وهذا القسم فيما كان معناه عامًا، والفرق بينهما يكون باعتبار معنى التقييد، فإن كان معناه خاصًا كالقسم الأول ثبت حكم التقييد، وإن كان معناه عامًا كالقسم الثاني سقط حكم التقييد. وقال داود وأهل الظاهر: لا معنى لهذا التقسيم، ويجري جميع المقيد على تقييده، ويكون شرطًا في ثبوت حكم يثبت بوجوده ويسقط بعدمه. ولا يعتبر معنى الأصل في عموم ولا خصوص؛ لأن الاعتماد على النصوص دون المعاني عندهم، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} الإسراء: 31، ولا يستباح قتلهم من إملاق كما لا يستباح مع وجوده، وقال تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} النور: 33، ولا يجوز الإكراه على البغاء وإن لم يردن تحصنًا. فلما سقط حكم التقييد في هذا ولم يصر نسخًا جاز أن يسقط في غيره ولا يكون نسخًا، فإن خص هذا بدليل فقد جعلوا للدليل تأثيرًا في إسقاط التقييد، وهو الذي ذكرنا. 99/ ب فإن قيل: فإذا سقط التقييد صار لغوًا غير مقيد. قلنا: يحتمل ذكر التقييد مع سقوط حكمه أمورًا.
منها: أمر يكون حكم السكوت عنه مأخوذ من حكم المنطوق به ليستعمله المجتهد فيما لم يجد فيه نصًا، فإ، أكثر الحوادث غير منصوص.
ومنها: أن يكون التقييد تنبيهًا على غيره، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} آل عمران: 75 الآية، فنبه بالقنطار على الكثير، ونبه بالدينار على القليل، وإن كان حكم القليل والكثير فيهما سواء.
ومنها: أن يكون الوصف هو الأغلب من أحوال ما قيد به، فيذكره لغلبته كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} البقرة: 229 الآية، وإن كانت مفاداة الزوجين تجوز مع وجود الخوف وعدمه؛ لأن الأغلب من المفاداة أن تكون مع الخوف.
وإذا احتمل هذه الأمور وغيرها صار وجود التقييد مقيدًا مع سقوط حكمه وإن لم يكن لغوًا.