النبوة وكمل (به) الشريعة، وجعل الله بيان ما أخفاه من مجمل ومتشابهٍ، وإظهار ما يشرعه من أحكام ومصالح، فقال تعالى: {وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} النحل: 44.
ولما جعله الله تعالى بهذه المنزلة أوجب على الناس طاعته في قبول ما يشرعه لهم وامتثال ما يأمرهم بت وينهاهم عنه، فقال تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} الحشر: 7. الآية، فأوجب عليه لأمته أمرين؛ البيان والبلاغ، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} المائدة: 67 الآية، وأوجب للرسول على أمته صلى الله عليه وسلم أمرين؛ طاعته في قبول قوله، 109/ ب وأن يبلغوا عنه ما أخبرهم بت، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ منكم الشاهد الغائب". وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا علىًّ، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه".
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يبلغ جميع الناس للعجز عنه، اقتصر على إبلاغ من حضر لينقله الحاضر إلى الغائب. ولما لم يبق فيهم إلى الأبد، وكل من يأتي في عصرٍ بعد عصرٍ يأخذون عمن تقدمهم من عصرٍ لينقل عنه كل سلفٍ إلى خلفهِ، فيستديم على الأبد نقل سنته، ويعلم جميع من يأتي بشرائعه، فصار نقل الأخبار عنه أصلاً من أصول الشرعة.
ثم الأخبار على ثلاثة أضرب؛ أخبار استفاضة، وتواتر، وآحادٍ.
فأما الاستفاضة: أن تبدو منتشرة من البر والفاجر، ويتحقق العالم والجاهل، فلا يختلف فيها مخبر، ولا يتشكك فيها سامع، ويكون انتشارها في ابتدائها كانتشارها في آخرها، وهذا أقوى الأخبار حالاً وأثبتها حكماً. وأما التواتر فما ابتدأ بت الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا قدراً ينتفي عن مثلهم التواطؤ والغلط، ولا يعترض في خبرهم تشكك ولا ارتياب، فيكون في أوله من أخبار الآحاد، وفي آخره من أخبار التواتر، فيصير مخالفاً لخبر الاستفاضة في أوله وموافقاً له في آخره، ويكون الفرق بين خبر الاستفاضة وخبر التواتر من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: ما ذكرنا من اختلافهما في الابتداء واتفاقهما في الانتهاء.
والثاني: أن أخبار الاستفاضة لا يراعى فيها عدالة المخبر وفي التواتر يراعى.
والثالث: أن أخبار الاستفاضة 110/ أ ينتشر من غير قصدٍ لروايتها، وأخبار التواتر ما ننشر عن قصد لروايتها.
ثم يستوي الخبران في انتفاء التشكك عنهما ووقوع العلم يهما، وليس العدد فيها محصوراً ليكون أنفي للارتياب وأمنع من التصنع، وإنما الشرط فيهما أن ينتفي عن المخبرين يهما جواز التواطؤ على الكذب، ويمتنع اتفاقهم في السهو والغلط حتى يزول الشك ويحصل اليقين، ثم ينتهي إلى عصرٍ بعد عصرٍ على مثل هذه الحال، فالمستفيض من أخبار السنة مثل عدد الركعات، والمتواتر فيها مثل نصب الزكوات. فإن قيل: فقد استفاض في النصارى قتل عيسى- عليه السلام- وقد أخبر الله تعالى بكذبهم. قيل: