فأما اجتهاده: فما بلغ منه فهو صواب وما بقى عليه من اجتهاده إلى بلوغ معرفة الحق فهو معذور في تخلفه عنه؛ لأن فهمه بلغ بعض طريقه ولم يبلغ به أقصى ما طلبه فهو فيما أتى به مأجور ومصيب فيه، ومنزلته منزلة الحاج الذي أمر بقطع المساقة ليبلغ به إلى بيت الله الحرام، فسلك بعض الطريق ثم ضعف عن باقية أ, تلفت راحلته، يؤجر 134/ب على القدر الذي قصده.
وعبر القفال عن هذا فقال: لا يستحق الأجر في قصده الخطأ الموضوع عنه، وإنما يستحق الأجر على إنشاء قصد الثواب. مثاله: أن يقوم ليخرج إلى مكة فأخطأ في نصف الطريق وعدل إلى طريق آخر، فثوابه من ابتداء قصده إلى موضع عدوله إلى الخطأ. قال: وهذا معنى قول الشافعي: "لا يؤجر على الخطأ إنما يؤجر على قصد الثواب". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نية المؤمن خير من عمله"، ولهذا ثلاث تأويلات:
أحدها: أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد.
والثاني: يعني أن نيته خير من خيرات عمله.
والثالث: أن النية أوسع من العمل؛ لأنها تسبق الأقوال والأفعال فيعجل الثواب عليها.
وقال القاضي الطبري: ما قاله أبو إسحاق أولا أصح؛ لأن ذلك الاجتهاد خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ثواب المخطئ على ماذا؟ فيه قولان.
أحدهما: على الاجتهاد كرجلين سلكا الجامع من طريقين فأفضل أحدهما الطريق أثيب عليه وإن لم يصل إلى الجامع.
والثاني: على القصد كرجلين رميا إلى كافر فأصابه أحدهما دون الآخر، يثاب المخطئ على القصد، وإطلاق القولين خطأ على المصيب. وقال الأصم وابن عليه: هو مأثوم على الاجتهاد لخطئه فيه. 135/أ وقالت طائفة من أهل العراق: هو غير مأجور عليه ولا مأثوم فيه. وهذا خطأ للخبر الذي ذكرنا.
وقال الإمام أبو القاسم الصميري: كل مجتهد مصيب في أنه أدى ما كلف من الاجتهاد وإن أخطأ الحكم الذي أراده الله تعالى إلا واحداً، وهذا لا يصح؛ لأنه كلف الاجتهاد المؤدي إلى الصواب، ولم يكلف الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ.
وأما الاستنباط وهو المقدمة الثانية من مقدمتي القياس، فهو من نتائج الاجتهاد، فكان فرعاً وأصلاً للقياس؛ لأن الوصول إلى استنباط المعاني بعد الاجتهاد في الدلائل، وصحة القياس يكون بعد استنباط المعاني، ولذلك صار الاستنباط فرعاً للاجتهاد وأصلاً للقياس. والاستنباط يختص باستخراج المعاني من ألفاظ النصوص