والثاني: (أن) تتساوى شواهد الأصول لكل واحد منهما ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء، فيتعلق حكم الأصل بكل واحد من المعنيين، ويكون اجتماعهما معاً علة في فروع الأصل، لقوة العلة باجتماعهما واستيعابهما لفروعهما.
وأما إذا لم يصح تعليق حكم الأصل بأحد معانيه لدخول الكثير عليه، وجب أن يضم إليه معنى آخر منمعاني الأصل، فيجمع فيه بين معنيين، فإن سلما بالاجتماع من كسر يدخل عليهما صارا جميعاً معنى الحكم في الأصل، وعلة الحكم في الفرع، وإن لم يسلم المعنيان من كسر ضممت إليهما معنى ثالثاً، فإن سلمت صار جميعها معنى الحكم في الأصل وعلة الحكم في الفرع، وإن لم تسلم المعاني الثلاثة 138/ أ من كسر ضممت إليها رابعاً وخامساً، كذلك أبداً حتى يجمع بين معاني الأصل، فيتبين باجتماع معانيها وقد قل حكمه وعدم تعديه. ومنع أبو حنيفة تعليق الحكم بما لم يتعد معانيه وأبطل به العلة الواقفة. وخص بعض أصحابنا معاني العلة، ومنع من تعليق الحكم بأكثر من أربعة أصناف.
ولو تعارض التعليل بمعنيين أحدهما منصوص عليه والآخر مستنبط، كان معنى النص أولى من معنى الاستنباط، كما يكون الحكم بالنص أولى من الحكم بالاجتهاد، وذلك مثل تعليل مال الفيء بقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} الحشر: 7، وتعليل تحريم الخمر بقوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ} المائدة: 91 الآية. وكما علل النبي صلى الله عليه وسلم بيع التمر بالرطب بقوله: "أينقص الرطب إذا يبس
.... " الخبر، فهذا التعليل كله عن نص الشافعي رضي الله عنه لا يجوز أن يدفع بعل مستنبطة.
إذا ثبت ما ذكرنا من مقدمتي القياس، فالقياس موضوع لطلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها، ليلحق كل فرع بأصله حتى يشركه في حكمه لاشتراكهما في المعنى والجمع بينهما بالعلة، فصار القياس إلحاق الفرع بالأصل بالعلة الجامعة بينهما في الحكم.
واسم القياس مأخوذ في اللغة من المماثلة، يقال: هذا قياس هذا أي مثله؛ لأن القياس هو الجمع بين المتماثلين في الحكم. وقيل: إنه مأخوذ من الإصابة، يقال: قسست الشيء إذا أصبته؛ لأن القياس يصيب به الحكم.
والقياس: أصل من أصول الشرع وحجة 138/ب يستخرج بها أحكام الفروع المسكوت عنها، يجب العمل به عند عدم النصوص في الإجماع، واختلفوا في طريق إثباته، فقال الأكثرون: هو دليل بالشرع. وقال بعضهم: هو دليل بالعقل وهو ضعيف. وقال النظام، وداود، والقاساني، والمغربي، والنهرواني، والشيعة: لا يجوز أن يعمل به في الشرع، ولا القول به، ولا يستدل به على حكم في فرع، والأحكام متعلقة بالأسماء دون المعاني.
وعندنا يتعلق الحكم بمعانيها إذا عقلت، وبالأسماء إذا جهلت ويكون اختلافهما