على ما ورد الشرع بها. واختلفوا في طريق نفيه، فقال بعضهم: منفي بالعقل وحده. وقال بعضهم: منفي بالشرع وحده. وحكي عن داود أنه قال: لم يرد الشرع به، ولو ورد به لجاز أن يكون دليلاً فيه. وقيل: إنه قال: العقل لا يوجبه والشرع لم يوجبه، وهذا كله غلط، وهذا الخلاف خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثباته من الصحابة والتابعين قولاً وعملاً.
أما العمل: فإنهم اختلفوا في مسائل، مثل قوله: أنتعلي حرام، ومقاسمة الجد الإخوة، وذهب كل واحد منهم مذهباً، ولا يجوز أن يكونوا قالوا ذلك توقيقاً؛ لأن أحداً منهم ما أظهر فيه توقيفاً، فثبت أنهم قالوه اجتهاداً وقياساً. وأما القول: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي. وعن عمر- رضي الله عنه- مثل ذلك. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة المفوضة أقول برأيي، فإن أصبت فمن الله تعالى، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان 139/أ والله ورسوله منه بريئان، وغير هذا من الألفاظ في مسائل كثيرة، ما تدل على الاجتهاد والقياس، فدل ذلك على صحة ما قلناه.
وأيضا قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} الحشر: 2، وفي الاعتبار وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من العبور، وهو أن يجاوز المذكور إلى غير المذكور، وهذا هو القياس.
والثاني: مأخوذ من العبرة، وهو اعتبار الشيء بمثله، ومنه عبرة الخراج، أن يقاس خراج عام بخراج عام غيره في المماثلة.
وفي كلا الوجهين دليل على القياس؛ لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره، وبالشاهد على الغائب.
وأيضا قال تعالى: {وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ} يس: 78 الآية، فجعل خلق الأحياء دليلاً على خلق الموتى، وهذا دليل مستمر في قضايا العقول، ولولا القياس لما صار دليلاً.
وأيضاً قال الله تعالى: {ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء: 83، وأولوا الأمر هم العلماء، والاستنباط هو القياس، فصارت هذه الآية كالنص في إثباته.
وروي في خبر معاذ- رضي الله عنه- أنه قال: "أجتهد رأيي" وهذا دليل على جواز الاجتهاد عند عدم النص، وأن ليس كل الأحكام مأخوذة عن نص، فصار القياس أصلاً بالنص. وروي أنه صلى الله عليه السلام قال في خبر عمر رضي الله عنه: "أرأيت لو تمضمضت" وهذا قياس. وأيضاً لما استقر في العقل أن يستدل بالشاهد على الغائب، ويجمع بين المتماثلين في الشبه، ويسوي بين المتفقين 139/ب في المعنى، وجب أن يكون في قضايا السمع استدلال بالشاهد على الغائب، والجمع بين المتماثلين في الشبه والمتفقين في المعنى استدلالاً بالعقل والسمع. أما العقل فشواهده واضحة.