بالآخر؛ لأنه تبين ذلك اجتهادًا, ولأنه يحتمل أن يكون مصيبًا في الأول مخطئًا في الثاني. ويحتمل أن يكون مخطئًا في الأول مصيبًا في الثاني, والحكم الأول قد نفذ على السلامة ظاهرًا, فلا ينقض بأمرٍ محتمل, ولأنه لو نقض الاجتهاد بمثله أدى إلى أنه لا يثبت حكم أصلًا, لأنه يجوز أن يتغير اجتهاده بعد ذلك إلى الحكم الأول ثم يتغير عنه, وفي نقض ذلك مشقة عظيمة للتكرار.
وإن تغير اجتهاده قبل الحكم لم يحكم بالأول بل يحكم بالثاني؛ لأنه يعتقده خطأ, ولو حكم به لكان حكمًا بما يعتقد أنه خطأ, وهذا لا يجوز, ويفارق هذا إذا كان قد حكم؛ لأن هناك بعد الحكم على السلامة في الظاهر فلا ينقض بأمرٍ محتملٍ, وهنا لم ينفذ الحكم, وهذا كما لو فسق الشهود قبل الحكم, ولو فسقوا بعد الحكم لم ينقض الحكم. 156/ أ وحكي عن أبي حنيفة ومالك- رحمهما الله تعالى- أنهما قالا: إن خالف معنى نص الكتاب أو السنة أو القياس الجلي أو الخفي لم ينقض حكمه, وإن خالف إجماعًا نقض حكمه. وهذا قول مستبعد ولكنه محكي عنهما وناقصًا في ذلك؛ لان مالكًا قال: إن حكم بالشفعة للجار نقض حكمه, وقال أبو حنيفة: وإن حكم بجواز بيع لحم متروك التسمية عمدًا عند الذبيحة نقض حكمه. وكذلك إن حكم في القسامة بيمين المدعي ينقض حكمه.
وقال محمد بن الحسن: لو حكم بالشاهد واليمين ينقض حكمه. وهذه الأحكام لا تخالف الإجماع, والذي عنهما خطأ ظاهر؛ لأنه إذا نقض الحكم بمخالفة الإجماع فنقضه بمخالفة نص الكتاب والسنة أولى.
وقال القفال: عدّ أبو حنيفة مسائل وذكر أنه ينقض الحكم فيها, حكم من قال أكثر اللعان يقوم مقام الكل, وأن زوج الأمة لا يلاعن لنفي الولد, وأن لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف. وأن من تزوج بأمةٍ ووطئها مع العلم بتحريمها لا يحد, فإن النكاح بغير ولي جائز, والحكم بشهادة الفاسق, والحكم بجواز بيع أم الولد, والحكم بأن لا تقبل شهادة القاذف بعد التوبة؛ لأن الخطأ ظهر في هذه المسائل بدليلٍ قاطع. ونص الشافعي على نقض الحكم في مسألة واحدة, وهي أن المرأة إذا فقدت زوجها تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرًا, ثم تزوجت وقضى القاضي بصحته نقض حكمه.
ومن أصحابنا من قال: لا ينقض حكمه في شيء من هذه المسائل؛ لان الخطأ ظهر منها بقياس الشبه, وهذا هو الصحيح. 156/ ب والنص في مسألة المفقود غريب, ولعله ذكره تغليظًا للقول فيه لا اعتقادًا.
مسألة: ٌَقَالَ: "وَلَيْسَ عَلَى اَلْقَاضِي أَنْ يَتَعَقَّبَ حُكْمَ مَنْ قَبْلِهِ".