أحدهما: وهو المنصوص عليه في كتاب الجزيةً، وعامةً كتبه أنها واجبةً عليه، ولا تعقد له الذمة إلا بها، وهو اختيار المزني.
والثاني: نص عليه في سير الواقدي: أنه لا جزية عليه، ويكون في عقد الذمة تبعا لأهل المسكنة، كالنساء والعبيد، وبه قال أبو حنيفة، احتجاجا بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طبق في الجزية أهل العراق ثلاث طبقات، جعل أدناها الفقير المعتمل، فدل على سقوطها عن غير المعتمل، ولأنه مال يجب في كل حول، فلم تجب على الفقير كالزكاةً، ولأن الجزية ضربان على الرءوس والأرضين، فلما سقطت عن الأرض إذا أعوز نفقتها، سقطت عن الرءوس إذا أعوز وجودها.
والدليل على وجوبها على الفقير: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} التوبة: 29. إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ} التوبة: 29
فلما كان قتالهم عامًا في الموسر والمعسر وجب أن يكون ما جعله غاية في الكف عن قتالهم من بذل الجزية عامًا في الموسر والمعسر: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل - حين بعثه إلى اليمن: خذ من كل حالم دينارا، وقد علم أن فيهم فقيرا، ولم يميزهم، فدل على أخذها منهم.
فإن قيل: فالأمر بالأخذ في الكتاب والسنةً مشروط بالقدرةً، ويسقط فيما خرج من القدرةً.
قيل: هذا الأمر إنما توجه إلى الضمان دون الدفع: لأنه في ابتداء الحول، والدفع يكون بعد الحول، وقد يتوجه الضمان إلى المعسر ليدفعه إذا أيسر كسائر الحقوق.
ومن القياس أنه حر مكلف، فلم يجز إقراره على كفره في دار الإسلام بغير جزية كالموسر، وفيه احتراز من المرأةً: لأنها تدخل في اللفظ المذكر، ولأن كل من حل قتله بالأسر لم تسقط عنه الجزية بالفقر كالغني إذا افتقر، ولأنه أحد سببي ما يحقن به الدم، فوجب أن يقوى فيه الغني والفقير كالإسلام، ولأن الجزية في مقابلة أمرين:
أحدهما: حقن الدم.
والآخر: الإقرار في دارنا على الكفر.
وما حقن به الدم لم يسقط بالإعسار، كالدية.
وما استحق به المقام في مكان لم يسقط بالإعسار كالأجرة.
فأما الجواب عن فعل عمر - رضي الله عنه - فمن وجهين:
أحدهما: أن أخذها من الفقير المعتمل لا يوجب سقوطها عن غير المعتمل.
والثاني: أن المعتمل هو المكتسب بالعمل - وغير المعتمل قد يتكسب بالمسألة، وهي عمل فصار كالمعتمل. والقياس على الزكاة فاسد من وجهين:
أحدهما: أن الزكاة تجب في المال، فاعتبرناه في الوجوب، والجزية تجب في الذمة، فلم يعتبر المال في الوجوب.