وروى الأعمش عن شقيق بن وائل عن الأشعث قال: كان بيني وبين يهودي أرض فجحدني عليها، فقدمته إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي. احلف. قلت إذن يحلف فيذهب بمالي، فنزل قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} آل عمران: 77 الآية، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر حجة كل واحدة منهما.
وروى سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه أن رجلًا من حضرموت أتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل من كندة، فقال: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي: أرضي، وفي يدي أزرعها، لا حق له فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. فقال: لك يمينه. فقال الحضرمي: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف إنه لا يتورع من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"ليس لك منه إلا ذاك" فدل على ما ذكرناه. ويدل عليه من طريق المعنى أن البينة أقوى من اليمين، لزوال التهمة عن البينة وتوجهها إلي اليمين.
وجنبة المدعى عليه أقوى من جنبة المدعي، لأن الدعوة إن توجهت إلي ما في يده فالظاهر أنه على ملكه، وإن توجهت إلي دين في ذمته، فالأصل براءة ذمته، فجعلت أقوى الحجتين وهي البينة في أضعف الجنبتين وهي المدعي، وجعلت أضعف الحجتين وهي اليمين في أقوى الجنبتين وهي المدعى عليه، لتكون قوة الحجة جبرانًا، لضعف الجنبة وفي الجنبة جبرانًا لضعف الحجة فتعادلا في الضعف والقوة.
فصل:
وإذا تعين المدعي، وتحررت الدعوى، سأل الحاكم المدعى عليه، عن الدعوى، ولم يسأل المدعي عن البينة، لأنه قد يقر المدعى عليه، فلا يحوج إلي البينة، فإن أقر لزمه إقراره، وأخذه بموجبه، وقد فصل الحكم بينهما.
وإن أنكر سأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فإن ذكرها أمره بإحضارها، فإذا أحضرت سمع الحاكم منها وحكم على المدعى عليه، بها، وقدمها على يمين المدعى عليه لأمرين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم البينة على اليمين.
والثاني: أن البينة أقوى من اليمين من وجهين:
أحدهما: أن التهمة منتفية عن البينة، لأنها لا تجر إلي نفسها نفعًا، ولا تدفع ضررًا، والتهمة متوجهة إلي يمين الحالف، لأنه يدفع بها عن نفسه ضررًا، ويجربها إلي نفسه نفعًا.