والثاني: أن البينة تشهد بتصريح الملك، وتوجيه، واليمين تدل عليه ولا توجيه، وإن عدم المدعي البينة سأل الحاكم المدعى عليه الحلف، ولم يقل له احلف؛ لأن سؤاله استفهام. وأمره تلقين، وإن حلف فصل الحكم بينهما بيمينه، وسقطت الدعوى فإن نكل عن اليمين لم يجبر عليها، وترد يمينه على المدعي، بعد استقرار نكوله، ولا يقضى عليه بالنكول، من غير إحلاف المدعي، وقال أبو حنيفة: يقضي عليه بالنكول، من غير إحلاف المدعي، وقد تقدم الكلام معه، وإن امتنع المدعى عليه من اليمين لقيم البينة بدلًا من يمينه نظر في الدعوى.
فإن كانت بدين في الأمة لم تسمع منه البينة؛ لأنه نفي الدين بإنكاره والبينة لا تسمع على النفي وقيل له: لا براءة لك من الدعوى إلا بيمينك. فإن كانت الدعوى بعين في يده ففي سماع بينته بدلًا من يمينه وجهان:
أحدهما: لا تسمع بينته، لأنه لا حاجة به إليها، ويستغنى بيمينه عنها.
والثاني: تسمع ببينته عليها وترتفع الدعوى بها، وتكون بينته أوكد من يمينه لأن البينة قد جمعت إثباتًا ونفيًا، فصح سماعها منه في الأعيان لما تضمنها من الإثبات، ولم يسمعها فيما تعلق بالذمة لأنها تتضمن النفي دون الإثبات.
وقال أبو حنيفة: اليمين مستحقة على المدعى عليه فلا تنقل إلي المدعي، والبينة مستحقة على المدعي، فلا تنقل إلي المدعى عليه، فلذلك فضي عليه بنكوله، ولم تسمع منه البينة، ولم يختلف عليه المدعي وسيأتي الكلام معه.
فصل:
فإن أقام المدعي بينة، وأقام صاحب اليد بينة، سمعت بينته وقضى ببينته على بينة المدعي، لفضل يده في جميع الأعيان سواء كان الملك مطلقًا، أو مذكورًا لسبب وسواء فيما ذكر سببه مما يتكرر كصناعة الأواني وما ينتج من الخز مرة بعد أخرى، لو كان مما لا يتكرر سببه كالنتاج، وثياب القطن والكتان، وبه قال مالك من أهل المدينة وقال به من أهل العراق شريح، والنخعي والحكم بن عيينة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كان التنازع في ملك مطلق، أو مما يتكرر سببه لم تسمع بينة صاحب اليد، وقضى بينة المدعي، وإن كان مما لا يتكرر سمعت بينة صاحب اليد في الأحول كلها، وسموا المدعى خارجًا، وصاحب اليد داخلًا، فقال: تسمع بينة الخارج، ولا تسمع بينة الداخل، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" بحذف الألف واللام الموجب لاستغراق الجنس، فاقتضى أن لا تنتقل البينة إلي المدعى عليه، ولا تنتقل اليمين إلي المدعي.
ولأن اليمين موجبة للملك فلم يستفد صاحب اليد بالبينة ما لا يستفيد بيده وبينة المدعي يحكم بها مع يد المدعى عليه، فوجب أن يحكم بها مع بينته، لأن بينته لم تعد إلا ما أفادته يده، ثم اليد أقوى من البينة، لأن اليد تدل على الملك شاهدة والبينة تدل