البيان، وها هنا لما انفصلا في حق الصيغة اقتصرت الجهالة على دليل الخصوص فبقي الآخر على ظاهره معمولاً به.
وهذا بخلاف قول الله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} لأن الكلام إنما يصح في نفسه إذا خرج من أهله وأضيف إلى محل يقبله فإن بيع المجنون ضائع لأن المجنون ليس بأهل له، وبيع العاقل حراً ضائع لأنه ليس بمحل للبيع.
وقوله: {وما يستوي الأعمى والبصير} إنما لم يثبت عمومه لأن المحل غير قابل للعموم، لأن نفي المساواة بينهما مضاف إليهما، وهما غير قابلين لعمومه لتساويهما في الوجود والعقل والإنسانية والحيوانية فضاع هذا الكلام من حيث اقتضاء العموم لعدم المحلية فلم يبق إلا الخاص، وأنه مجهول وكان كالذي استثني منه شيء مجهول لأن المستثنى يصير غير ثابت في نفسه كان المتكلم لم يتكلم إلا بالباقي بعده.
فأما إذا كان المحل قابلاً في نفسه، والكلام صدر من أهله ولم يستثن منه شيء حتى صح مخرجه وقراره فالعمل به لا يمتنع إلا بمانع فيتقدر بقدره، كما في الكلام إذا استثني منه طرف، وكالبيع بشرط الخيار لا يضيع أصلاً لوجوده من أهله في محله، ولكن يمتنع العمل به بقدر المانع، وكما إذا استحق بعض المبيع امتنع عمل البيع فيه بقدره.
وأما القول الرابع الذي عليه جمهور العلماء: وهو أن العام إذا خص منه شيء معلوم، أو مجهول بقي على عمومه ولكن غير موجب للعلم قطعاً، كما قاله الشافعي رحمه الله تعالى قبل التخصيص.
الدليل على أنه مذهب جمهور العلماء أنا توارثنا الاحتجاج بالعام في أحكام الحوادث، وما فيها عموم لم يثبت خصوصه.
والدليل على أنه غير موجب علماً أنا توارثنا أيضاً تخصيصها بالقياس وبخبر الواحد والمعقول يدل عليه، وهو أن دليل الخصوص يشبه دليل النسخ من حيث الصيغة، ويشبه الاستثناء في حق الحكم.
أما في حق الصيغة: فكما ذكره الأول أنه لا اتصال بين النصين وكل واحد منهما كلام تام بنفسه وردا منفصلين حتى لو كانا متراخيين كان الثاني ناسخاً للأول، فمن هذا الوجه يجب بقاء العموم فيما لم يثبت خصوصه قطعاً، كما يجب فيما لم يثبت نسخه قطعاً.
وأما من حيث الحكم: فلأن دليل الخصوص يبين لنا أن قدر المخصوص منه لم يدخل تحت العموم حكماً كالاستثناء بخلاف النسخ فلم يجز الاعتبار بأحدهما بل اعتبر في كل باب بنظيره.
فنقول في حق الصيغة تعتبر بالنسخ كأن الحكم ثابتاً ثم ارتفع إذ صح مخرجه وانعقد في محل قابل للعموم.