وَإِذا كَانَ بَقَاء الحكم بِمَا كَانَ النَّص الْعَام متناولا لَهُ عرفنَا أَن التَّخْصِيص لَا يكون تعرضا لما وَرَاء الْمَخْصُوص بِشَيْء
وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَإِن خص مِنْهُ أهل الذِّمَّة وَغَيرهم فَمن لَا أَمَان لَهُ يجب قَتله لِأَنَّهُ مُشْرك
وَفِي قَوْله {فَتَحْرِير رَقَبَة} إِذا قيدنَا بِصفة الْإِيمَان لَا تتأدى الْكَفَّارَة بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة بل بِمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الرَّقَبَة المؤمنة
فَعرفنَا أَنه فِي معنى النّسخ وَلَيْسَ بتخصيص وَلِأَن التَّخْصِيص يصرف فِيمَا كَانَ اللَّفْظ متناولا لَهُ بِاعْتِبَار دَلِيل الظَّاهِر لَوْلَا دَلِيل الْخُصُوص وَالتَّقْيِيد تصرف فِيمَا لم يكن اللَّفْظ متناولا لَهُ أصلا لَوْلَا التَّقْيِيد فَإِن اسْم الرَّقَبَة لَا يتَنَاوَل صفتهَا من حَيْثُ الْإِيمَان وَالْكفْر فَعرفنَا أَنه نسخ والنسخ فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يكون بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَا تتَعَيَّن الْفَاتِحَة للْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة ركنا لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا ثَبت بِالنَّصِّ وَلَا تثبت الطَّهَارَة عَن الْحَدث شرطا فِي ركن الطّواف لِأَنَّهُ زِيَادَة على النَّص وَلَا يثبت النَّفْي حدا مَعَ الْجلد فِي زنا الْبكر لِأَنَّهُ زِيَادَة وَلَا يثبت اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار لِأَنَّهُ زِيَادَة
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله شرب الْقَلِيل من الطلاء المثلث لَا يكون حَرَامًا لِأَن الْمحرم السكر بِالنَّصِّ وَشرب الْقَلِيل بعض الْعلَّة فِيمَا يحصل بِهِ السكر فَلَا يكون مُسكرا
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِذا وجد الْمُحدث من المَاء مَا لَا يَكْفِيهِ لوضوئه أَو الْجنب مَا لَا يَكْفِيهِ لاغتساله فَإِنَّهُ يتَيَمَّم وَلَا يسْتَعْمل ذَلِك المَاء لِأَن الْوَاجِب اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ طهُور وَهَذَا بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فِي حكم الطَّهَارَة فَلَا يكون طهُورا فوجوده لَا يمْنَع التَّيَمُّم
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا شهد أحد الشَّاهِدين بِالْبيعِ بِأَلف وَالْآخر بِالْبيعِ بِأَلف وَخَمْسمِائة لَا تقبل الشَّهَادَة فِي إِثْبَات العقد بِأَلف وَإِن اتّفق عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ ظَاهرا لِأَن الَّذِي شهد بِأَلف وَخَمْسمِائة قد جعل الْألف بعض الثّمن وانعقاد البيع بِجَمِيعِ الثّمن الْمُسَمّى لَا بِبَعْضِه فَمن هَذَا الْوَجْه كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنى شَاهد لعقد آخر وَالْألف الْمَذْكُور فِي شَهَادَة الثَّانِي كَانَ بِحَيْثُ يثبت بِهِ العقد لَوْلَا وصل شَيْء آخر بِهِ بِمَنْزِلَة التَّخْيِير فِي الطَّلَاق وَالْعتاق يصير شَيْئا آخر إِذا اتَّصل بِهِ التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَحكم الزِّيَادَة يكون بِهَذِهِ الصّفة أَيْضا
وَالَّذِي يُقرر جَمِيع مَا ذكرنَا أَن النّسخ إِنَّمَا يثبت بِمَا لَو جهل التَّارِيخ فِيهِ كَانَ مُعَارضا وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فَإِنَّهُ لَو جهل التَّارِيخ بَين النَّص الْمُطلق والمقيد يثبت التَّعَارُض بَينهمَا فَعرفنَا أَنه عِنْد معرفَة وَيجوز أَن يرد النّسخ على مَا هُوَ نَاسخ كَمَا يجوز أَن يرد النّسخ على مَا كَانَ مَشْرُوعا ابْتِدَاء إِذْ الْمَعْنى لَا يُوجب الْفرق بَينهمَا
وَبَيَان هَذَا فِيمَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن حُرْمَة مفاداة الْأَسير الثَّابِت بقوله تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} قد انتسخ التَّارِيخ بَينهمَا يكون