الْحُكْمُ بِالْقُوَّةِ وَمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ نَزَلَ إنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا وَلَوْ نَزَلَ فَقَبْلَ نُزُولِهِ لَيْسَ حُكْمًا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حُكْمَ؛ وَمَنْ أَخْطَأَ لَمْ يُخْطِئْ الْحُكْمَ بَلْ أَخْطَأَ مَا كَانَ لَعَلَّهُ سَيَصِيرُ حُكْمًا لَوْ جَرَى فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ إنْزَالُهُ وَلَمْ يَجْرِ فِي تَقْدِيرِهِ فَلَا مَعْنَى لَهُ
وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَجُوزَ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فِي تَقْدِيرِهِ وَإِصَابَةُ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يَنْزِلُ لَوْ أُنْزِلَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَصْوِيبُ كُلِّ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلًا كَيْفَمَا قَالَ أَوْ يَنْزِلُ تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ قَطَعَ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ حَيْثُ لَمْ يَتَخَيَّرْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، فَإِنَّ هَذِهِ التَّجْوِيزَاتِ لَا تَنْحَصِرُ فَرُبَّمَا يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْعِبَادِ فِي أَنْ لَا يَضَعَ فِي الْوَقَائِعِ حُكْمًا بَلْ يَجْعَلَ حُكْمَهَا تَابِعًا لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَعَبُّدُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ مَنْ يَقُولُ فِيهَا بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا تَخْطِئَةُ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْمًا مُعَيَّنًا نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا.
احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إنَّمَا اضْطَرَّنَا إلَى هَذَا ضَرُورَةُ الطَّلَبِ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَمَادَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَبَ الظَّنُّ أَوْ الْعِلْمُ بِجَهْلِهِ وَعِلْمِهِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ خَالٍ عَنْ وَصْفِ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَطْلُبَ مَا يَعْتَقِدُ انْتِفَاءَهُ؟ فَإِذَا اعْتَقَدَ الطَّالِبُ أَنَّ قَلِيلَ النَّبِيذِ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامًا وَلَا حَلَالًا فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ أَحَدِهِمَا؟
قُلْنَا: فَقَدْ أَخْطَأْتُمْ إذْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَطْلُبُ حُكْمَ اللَّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ خِطَابُهُ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا خِطَابَ بَلْ إنَّمَا يَطْلُبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَهُوَ كَمَنْ كَانَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَقِيلَ لَهُ: إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ السَّلَامَةُ أُبِيحَ لَك الرُّكُوبُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ الْهَلَاكُ حَرُمَ عَلَيْكَ الرُّكُوبُ. وَقَبْلَ حُصُولِ الظَّنِّ لَا حُكْمَ لِلَّهِ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا حُكْمُهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى ظَنِّكَ وَيَتْبَعُ ظَنَّكَ بَعْدَ حُصُولِهِ، فَهُوَ يَطْلُبُ الظَّنَّ دُونَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فِي الْبَحْرِ مَعْقُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَمَارَاتِ الْهَلَاكِ وَالسَّلَامَةِ فَذَلِكَ مَطْلُوبُهُ، وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَمْرٌ وَرَاءَهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا مَطْلُوبَ سِوَى الْحُكْمِ.
قُلْنَا: مِنْ هَهُنَا غَلِطْتُمْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ؛ وَنَحْنُ نَكْشِفُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ: لَوْ قُلْنَا لِلشَّارِعِ: مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَطَاءِ الْوَاجِبِ التَّسْوِيَةَ أَوْ التَّفْضِيلَ؟ ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ إمَامٍ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاحَ فِي التَّسْوِيَةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَحُكْمُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي التَّفْضِيلِ التَّفْضِيلُ، وَلَا حُكْمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَحْصِيلِ الظَّنِّ إنَّمَا يَتَجَدَّدُ حُكْمُهُ بِالظَّنِّ وَبَعْدَهُ كَمَا يَتَجَدَّدُ الْحُكْمُ عَلَى رَاكِبِ الْبَحْرِ بَعْدَ الظَّنِّ وَيَتَجَدَّدُ عَلَى قَاضِيَيْنِ شَهِدَ عِنْدَهُمَا فِي وَاقِعَتَيْنِ شَخْصَانِ وُجُوبُ الْقَبُولِ وَوُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَظَنِّ الْكَذِبِ، فَيَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا التَّصْدِيقُ وَعَلَى الْآخَرِ التَّكْذِيبُ.
وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُهُ فِي قَلِيلِ النَّبِيذِ؟ فَقَالَ: حُكْمُهُ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ قَلِيلَ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إلَى كَثِيرِهِ وَالتَّحْلِيلُ لِمَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا إلَّا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى قَبْلَ هَذَا الظَّنِّ. وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَتُضْرَبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَمْ عَلَى الْجَانِي؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْحُرِّ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِالْبَهِيمَةِ أَشْبَهَ الضَّرْبَ عَلَى الْجَانِي.
وَكَذَلِكَ نَقُولُ: مَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْجَصِّ وَالْبِطِّيخِ؟ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ تَحْرِيمُ الْبِطِّيخِ دُونَ الْجَصِّ وَعَلَى مَنْ ظَنَّ أَنِّي حَرَّمْتُهُ لِلْكَيْلِ تَحْرِيمُ الْجَصِّ دُونَ الْبِطِّيخِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ رِبَا الْبُرِّ عِنْدَ اللَّهِ أَهِيَ الطَّعْمُ أَمْ