الْكَيْلُ أَوْ الْقُوتُ؟
فَنَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّعْمِ وَالْكَيْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِذَاتِهَا بَلْ مَعْنَى كَوْنِهَا عِلَّةً أَنَّهَا عَلَامَةٌ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَامَةٌ فَهُوَ عَلَامَةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَامَتَهُ الطَّعْمُ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ وَصْفًا ذَاتِيًّا كَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ لِلْعَالَمِ حَتَّى يَجِبَ أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لَا مَحَالَةَ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ وَالْوَضْعُ يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ وَقَدْ وَضَعْتُهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِهِ فَهُوَ مَعْقُولٌ وَجَانِبُ الْخَصْمِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَانَ مُحَالًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حُكْمٌ لَيْسَ بِخِطَابٍ
وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُخَاطَبٍ وَمُكَلَّفٍ، فَإِنَّ هَذَا يُضَادُّ حَدَّ الْحُكْمِ وَحَقِيقَتَهُ، أَوْ يَقُولُ تَعَلَّقَ بِهِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ يَقُولُ: لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَقَدْ أُمِرَ بِهِ لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُضَادُّ حَدَّ الْوَاجِبِ وَيُضَادُّ حَدَّ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ اجْتِهَادِهِ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ ضِدُّهُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يُقَالَ: الْقِبْلَةُ فِي جِهَةٍ أُخْرَى؟ بَلْ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ خَالَفَ اجْتِهَادَ نَفْسِهِ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةً أُخْرَى فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ عَصَى وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَاسْتَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْمُمْكِنِ دُونَ الْمُحَالِ. هَذَا حُكْمُ التَّأْثِيمِ وَالتَّصْوِيبِ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ فِي صُوَرِ مَسَائِلَ.
مَسْأَلَة تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ
مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَعَجَزَ عَنْ التَّرْجِيحِ وَلَمْ يَجِدْ دَلِيلًا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَتَحَيَّرَ.
فَاَلَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ يَقُولُونَ: هَذَا بِعَجْزِ الْمُجْتَهِدِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ تَعَارُضٌ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَيَلْزَمُ التَّوَقُّفُ أَوْ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ عَثَرَ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا الْمُصَوِّبَةُ فَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَتَوَقَّفُ لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِاتِّبَاعِ غَالِبِ الظَّنِّ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ ظَنُّ شَيْءٍ وَهَذَا هُوَ الْأَسْلَمُ الْأَسْهَلُ، وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا رُبَّمَا يُسْتَنْكَرُ وَيُسْتَبْعَدُ، وَيُقَالُ: كَيْفَ يَتَخَيَّرُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ؟ وَلَيْسَ هَذَا مُحَالًا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ
وَلَوْ صَرَّحَ الشَّرْعُ بِالتَّخْيِيرِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَدْ اُضْطُرِرْنَا إلَى التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَارَةً يُؤْخَذُ مِنْ النَّصِّ وَتَارَةً مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَتَارَةً مِنْ الشَّبَهِ وَتَارَةً مِنْ الِاسْتِصْحَابِ. فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى النَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَارَضَ فِي حَقِّنَا نَصَّانِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ تَارِيخٌ أَوْ يَتَعَارَضَ عُمُومَانِ وَلَا يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحٌ أَوْ يَتَعَارَضَ اسْتِصْحَابَانِ كَمَا فِي مَسَائِلِ تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ يَتَعَارَضَ شَبَهَانِ بِأَنْ تَدُورَ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَيَكُونَ شَبَهُهُ هَذَا كَشَبَهِهِ ذَاكَ أَوْ يَتَعَارَضَ مَصْلَحَتَانِ بِحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ.
فَلَوْ قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ، فَإِلَى مَتَى يَتَوَقَّفُ؟ وَرُبَّمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ التَّأْخِيرَ وَلَا نَجِدُ مَأْخَذًا آخَرَ لِلْحُكْمِ وَلَا نَجِدُ مُفْتِيًا آخَرَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَوْ وُجِدَ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ بِخَيَالٍ هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، فَكَيْفَ يُرَجِّحُ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؟ بَلْ لَا سَبِيلَ إلَّا التَّخَيُّرُ، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ مُفْتِيَانِ اسْتَوَى حَالُهُمَا عِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ، وَلَمْ يَجِدْ ثَالِثًا فَلَا طَرِيقَ إلَّا التَّخْيِيرُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ مَذَاهِبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَقْسِمُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَاهُ تَصْدِيقُ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَقْدِيرُ أَنَّهُ قَامَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبَبُ كَمَالِ الْمِلْكِ، لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ الْوَفَاءِ بِهِمَا وَلَا تَرْجِيحَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّاهُ بِالشُّفْعَةِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ سَبَبٌ كَامِلٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ لَكِنْ ضَاقَ الْمَحَلُّ