وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُهَا: الْإِيمَانُ بِوُجُودِهَا، وَالْبَحْثُ عَنْ أَنَّهَا رُوحَانِيَّةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ جُسْمَانِيَّةٌ، أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا جُسْمَانِيَّةً فَهِيَ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ أَوْ كَثِيفَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَطِيفَةً فَهِيَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ، أَوْ هَوَائِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَعَ لَطَافَةِ أَجْسَامِهَا بَالِغَةً فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَذَاكَ مَقَامُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي عُلُومِ الْحِكْمَةِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْبُرْهَانِيَّةِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ: الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ النَّحْلِ: 50 لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ الْأَنْبِيَاءِ: 19 فَإِنَّ لَذَّتَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأُنْسَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفَسِهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ، فَكَذَلِكَ حَيَاتُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمْ مُتَوَكَّلٌ عَلَى قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الصَّافَّاتِ: 1، 2 وَقَالَ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً الذَّارِيَاتِ: 1، 2 وَقَالَ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الْمُرْسَلَاتِ: 1، 2 وَقَالَ: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً النَّازِعَاتِ: 1، 2 وَلَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَسْرَارًا مَخْفِيَّةً، إِذَا طَالَعَهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَقَفُوا عَلَيْهَا.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ التَّكْوِيرِ: 19، 20، 21 فَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي حُصُولِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَكُلَّمَا كَانَ غَوْصُ الْعَقْلِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَشَدَّ كَانَ إِيمَانُهُ بِالْمَلَائِكَةِ أَتَمَّ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ أَوَّلُهَا: أَنَّ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْكِهَانَةِ، وَلَا مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَلَا مِنْ بَابِ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْوَحْيَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ الشَّيَاطِينِ مِنْ إِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْوَحْيِ الطَّاهِرِ، وَعِنْدَ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى قَوْلَهُ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا فِي أَثْنَاءِ الْوَحْيِ، فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، وَطَرَقَ الطَّعْنَ وَالتُّهْمَةَ إِلَى الْقُرْآنِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يُغَيَّرْ وَلَمْ يُحَرَّفْ، وَدَخَلَ فِيهِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ شَيْءٌ فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ مُحْكَمَهُ يَكْشِفُ عَنْ مُتَشَابِهِهِ.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ:
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنَّ يَعْلَمَ كَوْنَهُمْ مَعْصُومِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ الْبَقَرَةِ: 36 وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي يَتَمَسَّكُ بِهَا الْمُخَالِفُونَ قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ تَأْوِيلَاتِهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ بِعَوْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى.