يَفْعَلُهُ مِنْ دَاعِيَةٍ وَغَرَضٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ غَرَضٌ وَبَاعِثٌ، وَذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ لِنَيْلِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ مَصْدَرُهَا هُوَ الْقُوَى، فَهُوَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، وَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ صَادِرَةً عَنِ الْقُوَى أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُجَاهَدَةِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُرَابَطَةِ، ثُمَّ/ ذَكَرَ مَا بِهِ يَحْصُلُ دَفْعُ هَذِهِ الْقُوَى الدَّاعِيَةِ إِلَى الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ تَقْوَى اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ، وَهُوَ الْفَلَاحُ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُنُوزِ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ، وَأَنَّهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا كَالْمُتَمِّمِ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَهَذَا مَا عِنْدِي فِيهِ.
وَلْنَذْكُرْ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ الْحَسَنُ: اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَلَا تَتْرُكُوهُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْجُوعِ، وَصَابِرُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ وَلَا تَفْشَلُوا بِسَبَبِ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّكُمْ وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْبَرَ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَمَّا كَثُرَتْ تَكَالِيفُ اللَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَثُرَ تَرْغِيبُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِمُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَرابِطُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خَيْلَهُمْ فِي الثُّغُورِ وَيَرْبِطَ أُولَئِكَ خَيْلَهُمْ أَيْضًا، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَعِدًّا لِقِتَالِ الْآخَرِ، قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الْأَنْفَالِ: 60
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ»
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْمُرَابَطَةِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَا روي عن أبي سلمة عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ ذَكَرَ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: «فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ، وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنَ الرَّبْطِ وَهُوَ الشَّدُّ، يُقَالُ: لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الرِّبَاطُ هُوَ اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصَّبْرِ وَرَبْطِ النَّفْسِ، ثُمَّ هَذَا الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خمس وتسعين وخمسمائة.