هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُطِيعُونَ الرَّسُولَ وَلَا يَرْضَوْنَ بِحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ حُكْمَ غَيْرِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الزَّعْمُ وَالزَّعَمُ لُغَتَانِ، وَلَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْأَكْثَرَ إِلَّا فِي الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ. قَالَ اللَّيْثُ:
أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ زَعَمَ فُلَانٌ إِذَا شَكُّوا فِيهِ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَكَذَبَ أَوْ صَدَقَ، فَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أَيْ بِقَوْلِهِمُ الْكَذِبَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الزَّعُومُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي لَا يَعْرِفُونَ أَبِهَا شَحْمٌ أَمْ لا، وقال ابن العربي: الزَّعْمُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِّ، وَأَنْشَدَ لِأُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ
وَإِنِّي أَدِينُ لَكُمْ أَنَّهُ
... سَيُنْجِزُكُمْ رَبُّكُمْ مَا زَعَمَ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْكَذِبُ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ:
قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَازَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو الْقَاسِمِ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الرِّشْوَةِ، وَكَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ كَانَ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي الرِّشْوَةِ، وَالْيَهُودِيَّ كَانَ مُحِقًّا، وَالْمُنَافِقَ كَانَ مُبْطِلًا، فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْيَهُودِيُّ يُرِيدُ التَّحَاكُمَ إِلَى الرَّسُولِ، وَالْمُنَافِقُ كَانَ يُرِيدُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ أَصَرَّ الْيَهُودِيُّ عَلَى قَوْلِهِ، فَذَهَبَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْيَهُودِيِّ/ عَلَى الْمُنَافِقِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُ لَا أَرْضَى انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَحَكَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِلْيَهُودِيِّ فَلَمْ يَرْضَ الْمُنَافِقُ، وَقَالَ الْمُنَافِقُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ عُمَرُ، فَصَارَا إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ الْيَهُودِيُّ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَبَا بَكْرٍ حَكَمَا عَلَى الْمُنَافِقِ فَلَمْ يَرْضَ بِحُكْمِهِمَا، فَقَالَ لِلْمُنَافِقِ: أَهَكَذَا فَقَالَ نَعَمْ، قَالَ: اصْبِرَا إِنَّ لِي حَاجَةً أَدْخُلُ فَأَقْضِيهَا وَأَخْرُجُ إِلَيْكُمَا. فَدَخَلَ فَأَخَذَ سَيْفَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا فَضَرَبَ بِهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى بَرَدَ وَهَرَبَ الْيَهُودِيُّ، فَجَاءَ أَهْلُ الْمُنَافِقِ فَشَكَوْا عُمَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرَ عَنْ قِصَّتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ رَدَّ حُكْمَكَ يَا رَسُولَ اللَّه، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَالِ وَقَالَ: إِنَّهُ الْفَارُوقُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «أَنْتَ الْفَارُوقُ»
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الطَّاغُوتُ هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ.
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَسْلَمَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَنَافَقَ بَعْضُهُمْ،
وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قَتَلَ قُرَظِيٌّ نَضَرِيًّا قُتِلَ بِهِ وَأُخِذَ مِنْهُ دِيَةٌ مِائَةُ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلَ نَضَرِيٌّ قُرَظِيًّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، لَكِنْ أَعْطَىَ دِيَتَهُ سِتِّينَ وَسْقًا مِنَ التَّمْرِ، وَكَانَ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ، وَقُرَيْظَةُ حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، فَلَمَّا هَاجَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ نَضَرِيٌّ قُرَظِيًّا فَاخْتَصَمَا فِيهِ، فَقَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: لَا قِصَاصَ عَلَيْنَا، إِنَّمَا عَلَيْنَا سِتُّونَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَقَالَتِ الْخَزْرَجُ: هَذَا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ إِخْوَةٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ وَلَا فَضْلَ بَيْنَنَا، فَأَبَى بَنُو النَّضِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْطَلِقُوا إِلَى أَبِي بُرْدَةَ الْكَاهِنِ الْأَسْلَمِيِّ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلْ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى الْمُنَافِقُونَ وَانْطَلَقُوا إِلَى الْكَاهِنِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَدَعَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكَاهِنَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ،
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الطَّاغُوتُ هُوَ الْكَاهِنُ.
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ حَقٌّ، فَدَعَاهُ الْمُنَافِقُ