حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمَطَاعِمَ وَالْمَلَابِسَ وَاخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَهَاهُمُ اللَّه تَعَالَى عَنْهَا قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّه فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيماننا أنزل اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أن يَمِينَ اللَّغْوِ مَا هُوَ قَدْ سَبَقَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ البقرة: 225 فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَقَّدْتُمُ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ عَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ عَقَدَ فُلَانٌ الْيَمِينَ وَالْعَهْدَ وَالْحَبْلَ عَقْدًا إِذَا وَكَّدَهُ وَأَحْكَمَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَقَّدَ بِالتَّشْدِيدِ إِذَا وَكَّدَ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا عَاقَدَ بِالْأَلِفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، يُقَالُ: عَقَدَ زَيْدٌ يَمِينَهُ، وَعَقَدُوا أَيْمَانَهُمْ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ زَيَّفَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: التَّشْدِيدُ لِلتَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ تُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْيَمِينِ الواحدة لأنها لم تكرر.
وَأَجَابَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: عَقَدَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. الثَّانِي: هَبْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّكْرِيرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ يُوسُفَ: 23 إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَعْقِدَهَا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ أَمَّا لَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُعَقِّدًا، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْأَلِفِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ مِثْلُ عَافَاهُ اللَّه وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: (مَا) مَعَ الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِعَقْدِكُمْ أَوْ بِتَعْقِيدِكُمْ أَوْ بِمُعَاقَدَتِكُمُ الْأَيْمَانَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ إِذَا حَنَثْتُمْ، فَحَذَفَ وَقْتَ الْمُؤَاخَذَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَوْ بِنَكْثِ مَا عَقَّدْتُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا في سورة البقرة.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا جَمِيعًا فَالْوَاجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ الصَّوْمُ.
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا جَمِيعًا، وَمَتَى أَتَى بِأَيِّ وَاحِدٍ شَاءَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ الثَّلَاثَةُ فَذَاكَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: الْوَاحِدُ لَا بِعَيْنِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ