وَهُوَ الرَّئِيسُ الْمُطْلَقُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ وَخَدَمٌ وَأَنْصَارٌ، فَحَسُنَتْ إِضَافَةُ التَّوَفِّي إِلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ واللَّه أَعْلَمُ:
الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ الَّذِينَ بِهِمْ تَحْصُلُ الْوَفَاةُ، وَهُمْ أَعْيَانُ أُولَئِكَ الْحَفَظَةِ فَهُمْ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّه، وَعِنْدَ مَجِيءِ الْمَوْتِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْحِفْظَ غَيْرُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَ الْوَفَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ مَعَادِنُ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ مُغَايِرُونَ لِلَّذِينِ هُمْ أُصُولُ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ فَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالرُّوحَانِيِّينَ لِإِفَادَتِهِمُ الرُّوحَ وَالرَّاحَةَ وَالرَّيْحَانَ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمَّوْنَ بِالْكَرُوبِيِينَ لِكَوْنِهِمْ مَبَادِئَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ وَالْأَحْزَانِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَاحِدٌ هُوَ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَفَظَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَتْبَاعُهُ، وَأَشْيَاعُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَ الْأَرْضَ مِثْلَ الطَّسْتِ لِمَلِكِ الْمَوْتِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ إِلَّا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ صِفَاتِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمِنْ كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عِنْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ.
وَالْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ: تَوَفَّاهُ بِالْأَلِفِ مُمَالَةً وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، فَالْأَوَّلُ لِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ، / وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُذَكَّرُ، وَالثَّانِي عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ مَلَائِكَةِ النَّارِ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَلَائِكَةَ الْعَذَابِ لَا يُقَصِّرُونَ فِي تِلْكَ التَّكَالِيفِ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ عِصْمَةَ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَثْبَتَ عِصْمَتَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ: الْأَوَّلُ: قِيلَ الْمَرْدُودُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَعْنِي كَمَا يَمُوتُ بَنُو آدَمَ يَمُوتُ أَيْضًا أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: بَلِ الْمَرْدُودُونَ الْبَشَرُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يُرَدُّونَ إِلَى اللَّه. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ هَذِهِ الْبِنْيَةِ، لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَوْتِ لِلْعَبْدِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُرَدُّ إِلَى اللَّه، وَالْمَيِّتُ مَعَ كَوْنِهِ مَيِّتًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّه لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ لَيْسَ بِالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، لِكَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّدُّ مُفَسَّرًا بِكَوْنِهِ مُنْقَادًا لِحُكْمِ اللَّه مُطِيعًا لِقَضَاءِ اللَّه، وَمَا لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حصل هاهنا مَوْتٌ وَحَيَاةٌ أَمَّا الْمَوْتُ، فَنَصِيبُ الْبَدَنِ: فَبَقِيَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ نَصِيبًا لِلنَّفْسِ وَالرُّوحِ وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ وَثَبَتَ أن المرد وهو النَّفْسُ وَالرُّوحُ، ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا النَّفْسَ وَالرُّوحَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الرُّوحِ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الرَّدَّ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى حَضْرَةِ الْجَلَالِ: إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِالْبَدَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ الْفَجْرِ: 28 وَقَوْلُهُ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يُونُسَ: 4
وَنُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللَّه الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ بِأَلْفَيْ عَامٍ»
وَحُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ وُجُودِ الْبَدَنِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ بَيَّنَّا ضَعْفَهَا فِي «الْكُتُبِ العقلية» .