الْبَحْثُ الثَّانِي: كَلِمَةُ «إِلَى» تُفِيدُ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَقَوْلُهُ إِلَى اللَّه يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ للَّه تَعَالَى وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُمْ رُدُّوا إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَوْلَى، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى، وَلَفْظَ الْوَلِيِّ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْوَلْيِ: أَيِ الْقُرْبُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَرِيبُ الْبَعِيدُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق: 16 وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الْمُجَادَلَةِ: 7 وَأَيْضًا الْمُعْتِقُ يُسَمَّى بِالْمَوْلَى، وَذَلِكَ كَالْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «سَبَقَتْ/ رَحْمَتِي غَضَبِي» وَأَيْضًا أَضَافَ نَفْسَهُ إِلَى الْعَبْدِ فَقَالَ: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَمَا أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ نِهَايَةُ الرَّحْمَةِ، وَأَيْضًا قَالَ: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا تَحْتَ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ وَهِيَ النَّفْسُ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ كَمَا قَالَ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الْجَاثِيَةِ: 23 فَلَمَّا مَاتَ الْإِنْسَانُ تَخَلَّصَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوَالِي الْبَاطِلَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى الْحَقِّ.
وَالِاسْمُ الثَّانِي الْحَقُّ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، فَقِيلَ: الْحَقُّ مَصْدَرٌ. وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَأَسْمَاءُ الْمَصَادِرِ لَا تَجْرِي عَلَى الْفَاعِلِينِ إِلَّا مَجَازًا كَقَوْلِنَا فُلَانٌ عَدْلٌ وَرَجَاءٌ وَغِيَاثٌ وَكَرَمٌ وَفَضْلٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودُ وَأَحَقُّ الْأَشْيَاءِ بِالْمَوْجُودِيَّةِ هُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِكَوْنِهِ حَقًّا هُوَ هُوَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قُرِئَ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ كَقَوْلِكَ الْحَمْدُ للَّه الْحَقَّ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْحُكْمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه. وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا اللَّه، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ بِحُكْمِ اللَّه وَقَضَائِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّه حَكَمَ لِلسَّعِيدِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقِيِّ بِالشَّقَاوَةِ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَثَبَتَ لِلْمُطِيعِ عَلَى اللَّه حُكْمٌ، وَهُوَ أَخْذُ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يُنَافِي مَا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا للَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُدُوثِ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى. قَالَ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ قَدِيمًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِالْمُحَاسَبَةِ. الْآنَ: وَقَبْلَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُحَاسَبَةَ تَقْتَضِي حِكَايَةَ عَمَلٍ تَقَدَّمَ وَأَصْحَابُنَا عَارَضُوهُ بِالْعِلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الْخَلْقِ عَالِمًا بِأَنَّهُ سَيُوجَدُ، وَبَعْدَ وُجُودِهِ صَارَ عَالِمًا بِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ وُجِدَ، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الْحِسَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ الْخَلْقَ بِنَفْسِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لَا يَشْغَلُهُ كَلَامٌ عَنْ كَلَامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلْ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ حَتَّى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُحَاسِبُ وَاحِدًا مِنَ الْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ حَاسَبَ الْكُفَّارَ بِنَفْسِهِ لَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ آل عمران: 77 ، وَأَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَهُمْ كَلَامٌ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحساب، وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين.