الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَأْتِي بِهَا مُتَوَاتِرَةً حَالًا بَعْدَ حَالٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: حَكَى الْوَاحِدِيُّ: فِي قَوْلِهِ دَرَسَ الْكِتَابَ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
دَرَسَ الطَّعَامَ إِذَا دَاسَهُ، يَدْرُسُهُ دِرَاسًا وَالدِّرَاسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: وَدَرَسَ الْكَلَامَ مِنْ هَذَا أَيْ يَدْرُسُهُ فَيَخِفُّ عَلَى لِسَانِهِ. وَالثَّانِي: قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ دَرَسْتُ الْكِتَابَ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسْتُ الثَّوْبَ أَدْرُسُهُ دَرْسًا فَهُوَ مَدْرُوسٌ وَدَرِيسٌ، أَيْ أَخَلَقْتُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَلِقِ دَرِيسٌ لِأَنَّهُ قَدْ لَانَ، وَالدِّرَاسَةُ الرِّيَاضَةُ، وَمِنْهُ دَرَسْتُ السُّورَةَ حَتَّى حَفِظْتُهَا، ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِمَّا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل وَالتَّلْيِينِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر ودارست بِالْأَلِفِ وَنَصْبِ التَّاءِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَتَفْسِيرُهَا قَرَأْتَ عَلَى الْيَهُودِ وَقَرَءُوا عَلَيْكَ، وَجَرَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ مُدَارَسَةٌ وَمُذَاكَرَةٌ، وَيُقَوِّي هَذِهِ القراءة قوله تعالى: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ الْفُرْقَانِ: 4 وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ دَرَسْتَ أَيْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَلَوْتَهَا عَلَيْنَا قَدِيمَةٌ قَدْ دَرَسَتْ وَانْمَحَتْ، وَمَضَتْ مِنَ الدَّرْسِ الَّذِي هُوَ تُعَفِّي الْأَثَرِ وَإِمْحَاءُ الرَّسْمِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ مَنْ قَرَأَ دَرَسْتَ فَمَعْنَاهُ تَقَادَمَتْ أَيْ هَذَا الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْنَا قَدْ تَقَادَمَ وَتَطَاوَلَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَرَسَ الْأَثَرُ يَدْرِسُ دُرُوسًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» رَوَى هَاهُنَا قِرَاءَاتٍ أُخْرَى: فَإِحْدَاهَا: دَرُسَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي دَرَسَتْ أَيِ اشْتَدَّ دُرُوسُهَا. وَثَانِيهَا: دُرِسَتْ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى قَدُمَتْ وَعَفَتْ. وَثَالِثُهَا:
دَارَسَتْ وَفَسَّرُوهَا بِدَارَسَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا. وَرَابِعُهَا: دَرَسَ أَيْ دَرَسَ مُحَمَّدٌ. وَخَامِسُهَا: دَارِسَاتٌ عَلَى مَعْنَى هِيَ دَارِسَاتٌ أَيْ قَدِيمَاتٌ أَوْ ذَاتُ دَرْسٍ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.
الْبحُثُ الثَّالِثُ: «الْوَاوُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا عَطْفٌ على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الْحُجَّةَ وَلِيَقُولُوا فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ ذَكَرَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَرَفَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهُوَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ تعالى: وليقولوا دارست وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَمَّا هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّصْرِيفِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ الْبَيَانُ وَالْفَهْمُ وَالْعِلْمُ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ في الوجه الأول وهو قوله: وليقولوا دارست لأن قولهم للرسول دارست كُفْرٌ مِنْهُمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، وَعِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ عَادَ بَحْثُ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ. فَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَإِنَّهُمْ أَجْرَوُا الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّا ذَكَرْنَا هَذِهِ الدَّلَائِلَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ليقول بعضهم دارست فَيَزْدَادَ كُفْرًا عَلَى كُفْرٍ، وَتَثْبِيتًا لِبَعْضِهِمْ فَيَزْدَادَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً الْبَقَرَةِ: 26 وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ التَّوْبَةِ: 125 وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَحَيَّرُوا. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَحَدُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْإِثْبَاتُ عَلَى النَّفْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَمَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالثَّانِي: أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ اللَّامُ عَلَى