لَامِ الْعَاقِبَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ عِنْدَ تَصْرِيفِنَا هَذِهِ الْآيَاتِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَنِدِينَ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، عَادِلِينَ عَمَّا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ. هَذَا غَايَةُ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَمْلَ الْإِثْبَاتِ عَلَى النَّفْيِ تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّه وَتَغْيِيرٌ لَهُ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى وُثُوقٌ لَا بِنَفْيِهِ وَلَا بِإِثْبَاتِهِ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجُوزَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ الْبَتَّةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ يُظْهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ نَجْمًا نَجْمًا، وَالْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ نَازِلٍ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلِمَ لَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟ كَمَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالتَّوْرَاةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ تَصْرِيفَ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، إِنَّمَا يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ وَالْمُذَاكَرَةِ مَعَ أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَعَلَى مَا يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ تَصْرِيفُ هَذِهِ الْآيَاتِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ يُوجِبُ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَسَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا تَصْرِيفَ الْآيَاتِ عِلَّةً لِأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، مَعَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْرِيفَ الْآيَاتِ، هُوَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ الْقَوْلِ فَسَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، فَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ اللَّامِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ مَجَازٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى لَامِ الْغَرَضِ حَقِيقَةٌ، وَالْحَقِيقَةُ أَقْوَى مِنَ الْمَجَازِ فَلَوْ قُلْنَا: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ لَامُ الْعَاقِبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِلْحَقِيقَةِ فَقَدْ حَصَلَ تَقْدِيمُ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الذِّكْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا ضَعْفُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عَيْنُ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّا مَا بَيَّنَّاهُ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَمَا بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَاتِ لَهُمْ، وَلَمَّا دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَهُ بَيَانًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ثَبَتَ أَنَّهُ جَعَلَهُ ضَلَالًا لِلْكَافِرِينَ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا. واللَّه أعلم.
سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُ فِي إِظْهَارِ هَذَا الْقُرْآنِ إِلَى الِافْتِرَاءِ أَوْ إِلَى أَنَّهُ يُدَارِسُ أَقْوَامًا وَيَسْتَفِيدُ هَذِهِ الْعُلُومَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْظِمُهَا قُرْآنًا وَيَدَّعِي أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّه تَعَالَى، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَلِكَ الْقَوْلُ سَبَبًا لِفُتُورِهِ فِي تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ قَلْبِهِ وَإِزَالَةُ الْحُزْنِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ سَمَاعِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاحِدًا فِي الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْ تَكَالِيفِهِ بِسَبَبِ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَزَيْغِ الزَّائِغِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ تَرْكُ الْمُقَابَلَةِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ