وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالُوهُ رَابِعًا مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِيقُ الصَّدْرِ وَحَرَجُهُ شَيْئًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الضَّلَالِ وَمُوجِبًا لَهُ.
فَنَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ فِي قَلْبِهِ اعْتِقَادًا بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يُوجِبُ الذَّمَّ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يُوجِبُ إِعْرَاضَ النَّفْسِ وَنُفُورَ الْقَلْبِ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْقَلْبِ نَفْرَةٌ وَنَبْوَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ وَهَذِهِ الْحَالَةُ شَبِيهَةٌ بِالضِّيقِ الشَّدِيدِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إِذَا كَانَ ضَيِّقًا لَمْ يَقْدِرِ الدَّاخِلُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا حَصَلَ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ امْتَنَعَ دُخُولُ الْإِيمَانِ فِيهِ فَلِأَجْلِ حُصُولِ هَذِهِ الْمُشَابَهَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أُطْلِقَ لَفْظُ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ هَذَا الْكَلَامُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى تَفْصِيلِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ بِاسْتِيلَاءِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْكَافِرَ عَنِ الْمُؤْمِنِ بِهَذَا الضِّيقِ وَالْحَرَجِ فَلَوْ/ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حُصُولَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ مِنَ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ أَزْيَدَ مِمَّا يَحْصُلُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ زِيَادَةً يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ فِي حُزْنِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ عَلَى السَّوِيَّةِ بَلِ الْحُزْنُ وَالْبَلَاءُ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَكْثَرُ. قَالَ تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ الزُّخْرُفِ 33
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خُصَّ الْبَلَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ بِالْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ» .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ أَيْضًا مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَفْرَحُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْهِدَايَةِ وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِلْإِيمَانِ مَزِيدَ انْشِرَاحٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ الْمُرَادُ مَنْ يُضِلُّهُ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَضِيقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ إِخْرَاجٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفَائِدَةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْتَضِي تَفْكِيكَ نَظْمِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ عَكَسْتُمُ الْقَضِيَّةَ فَقُلْتُمُ الْعَبْدُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ أَوَّلًا مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ يَهْدِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخُصُّهُ بِمَزِيدِ الْأَلْطَافِ الدَّاعِيَةِ لَهُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالدَّلَائِلُ اللَّفْظِيَّةُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا إِذَا أَبْقَيْنَا مَا فِيهَا مِنَ التَّرْكِيبَاتِ وَالتَّرْتِيبَاتِ فَأَمَّا إِذَا أَبْطَلْنَاهَا وَأَزَلْنَاهَا لَمْ يُمْكِنِ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُمْكِنَ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ وَإِنَّهُ طَعْنٌ فِي الْقُرْآنِ وَإِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْفَصْلُ فِي هَذِهِ السُّؤَالَاتِ ثُمَّ إِنَّا نَخْتِمُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذِهِ الْخَاتِمَةِ الْقَاهِرَةِ وَهِيَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِيمَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ جَازِمَةٌ إِلَى فِعْلِ الْإِيمَانِ وَفَاعِلُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْكُفْرِ وَلَفْظُ الْآيَةِ مُنْطَبِقٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ قَوَّى فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يَصْرِفُهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدْعُوهُ إِلَى الْكُفْرِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ السُّؤَالَاتِ ساقط والله تعالى اعلم بالصواب.