فِي قَوْلِهِ: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: تَخْصِيصُ هَذَا الْمَعْنَى بِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي مَا أُخْرِجَ عَنْهُ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ، وَبَيْنَ مَا يَلْزَمُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَبَيْنَ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ فِي الدَّيْنِ وَالْحُقُوقِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَهْلِ أَوِ الْعِيَالِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْكَثِيرَ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ، سَوَاءٌ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَها مَا كَسَبَتْ الْبَقَرَةِ: 286 فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا اكْتَسَبَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ حَقُّهُ وَكَذَا قوله تعالى: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ مُحَمَّدٍ: 36
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ امْرِئٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ»
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا، وَمَا بَلَغَ أَنْ يُزَكَّى وَلَمْ يُزَكَّ فَهُوَ كَنْزٌ»
وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا. الثَّانِي:
أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَاعَةٌ كَعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعُدُّهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدَبَ إِلَى إِخْرَاجِ الثُّلُثِ أَوْ أَقَلَّ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ مُحَرَّمًا لَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّ الْمَرِيضَ بِالتَّصَدُّقِ بِكُلِّهِ، بَلْ كَانَ يَأْمُرُ الصَّحِيحَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ بِذَلِكَ. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: عُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، فَالْمَصِيرُ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ مُبَاحٌ بَعْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
وَالثَّانِي: مَا
رَوَى سَالِمُ بْنُ الْجَعْدِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ تَبًّا لِلْفِضَّةِ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالُوا لَهُ أَيُّ مَالٍ نَتَّخِذُ؟ قَالَ: لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِهِ» .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ برك صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا، وَتُوُفِّيَ رَجُلٌ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ فَقَالَ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَيَّةٌ» وَتُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَيَّتَانِ»
وَالثَّالِثُ: مَا
رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَنْزٌ أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كُلُّ صَفْرَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ أَوْكَى عَلَيْهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ كَنْزٌ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى أَنَّ العسير تَقْدُمُ بِالْمَالِ صَعِدَ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ وَيَقُولُ جَاءَتِ الْقِطَارُ تَحْمِلُ النَّارَ وَبَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ وَالْجُنُوبِ وَالظُّهُورِ وَالْبُطُونِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ لِيُتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى دَفْعِ الْحَاجَاتِ، فَإِذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ قَدْرُ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ جَمَعَ الْأَمْوَالَ الزَّائِدَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا لِكَوْنِهَا زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ وَمَنَعَهَا مِنَ الْغَيْرِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ حَاجَتَهُ بِهَا، فَكَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ بِهَذَا الْمَنْعِ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ حِكْمَتِهِ وَمَانِعًا مِنْ وُصُولِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَى عَبِيدِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَجْمَعَ الرَّجُلُ الطَّالِبُ لِلدِّينِ الْمَالَ الْكَثِيرَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، فَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْوَى وَالثَّانِي عَلَى ظَاهِرِ الْفَتْوَى، أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْأَوْلَى الِاحْتِرَازُ عَنْ طَلَبِ الْمَالِ الْكَثِيرِ فَبِوُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحَبَّ شَيْئًا فَكُلَّمَا كَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ وَالْتِذَاذُهُ بِوِجْدَانِهِ أَكْثَرَ، كَانَ حُبُّهُ لَهُ أَشَدَّ وَمَيْلُهُ أَقْوَى فَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذُقْ لَذَّةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ وَكَأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْ تِلْكَ اللَّذَّةِ، فَإِذَا مَلَكَ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَالِ وَجَدَ بِقَدْرِهِ اللَّذَّةَ، فَصَارَ مَيْلُهُ أَشَدَّ، فَكُلَّمَا صَارَتْ أَمْوَالُهُ أَزْيَدَ، كَانَ الْتِذَاذُهُ بِهِ أَكْثَرَ وَكَانَ حِرْصُهُ