بِالْمُحَابَطَةِ، وَأَنَّهُ بَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَثَّرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمِمَّا يُعِيِنُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ بِالْمُحَابَطَةِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعَمَلَ السَّيِّءَ بِالْمُخَالَطَةِ. وَالْمُخْتَلِطَانِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ حَالَ اخْتِلَاطِهِمَا، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ صِفَةٌ لِلْمُخْتَلِطِينَ، وَحُصُولُ الصِّفَةِ حَالَ عَدَمِ الْمَوْصُوفِ مُحَالٌ، فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ الْعَمَلَيْنِ حَالَ الِاخْتِلَاطِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مباحث:
البحث الأول: هاهنا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ (عَسَى) شَكٌّ وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَلِمَةُ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ الْمَائِدَةِ: 52 وَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ، وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ إِذَا الْتَمَسَ الْمُحْتَاجُ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يُجِيبُ إِلَيْهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّرَجِّي مَعَ كَلِمَةِ عَسَى، أَوْ لَعَلَّ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَنِي شَيْئًا وَأَنْ يُكَلِّفَنِي بِشَيْءٍ بَلْ كُلُّ مَا أَفْعَلُهُ فَإِنَّمَا أَفْعَلُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ، فَذِكْرُ كَلِمَةِ (عَسَى) الْفَائِدَةُ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، مَعَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْإِجَابَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ، الْمَقْصُودِ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ عَلَى الطَّمَعِ وَالْإِشْفَاقِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالْإِهْمَالِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَصْحَابُنَا قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّوْبَةِ النَّدَمُ، وَالنَّدَمُ لَا يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِنْ كَانَتْ فِعْلًا لِلْعَبْدِ افْتَقَرَ فِي فِعْلِهَا إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عَظِيمَ النَّدَامَةِ عَلَيْهِ، وَحَالَ كَوْنِهِ رَاغِبًا فِيهِ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ الرَّغْبَةِ عَنِ الْقَلْبِ، وَحَالَ صَيْرُورَتِهِ نَادِمًا عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ تِلْكَ النَّدَامَةِ عَنِ الْقَلْبِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى تَحَصُّلِ النَّدَامَةِ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الرَّغْبَةِ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَتُوبُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّرْفَ عَنِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يَحْسُنُ، إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظاهره، أما هاهنا، فَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ إِلَّا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ التَّأْوِيلُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَوْلُهُ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ حَصَلَ فِي الْمَاضِي، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ مَا كَانَ نَفْسَ التَّوْبَةِ، بَلْ كَانَ مُقَدِّمَةً لِلتَّوْبَةِ، وَأَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا رَاجِعٌ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذَهَا، وَصَارَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي كَمَالِ تَوْبَتِهِمْ لِتَكُونَ جَارِيَةً فِي حَقِّهِمْ مَجْرَى الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَكَانَ يَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ الَّذِي صَدَرَ منهم.