وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّكَوَاتِ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَابُوا مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْغَزْوِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَبَذَلُوا الزَّكَاةَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِيجَابُ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِذِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِيجَابِ الزَّكَوَاتِ. وَقَالُوا فِي الزَّكَاةِ إِنَّهَا طُهْرَةٌ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْآيَاتِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ ابْتِدَاءً، لَمْ يَبْقَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَلَا بِمَا بَعْدَهَا، وَصَارَتْ كَلِمَةً أَجْنَبِيَّةً، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَخْذُ الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ، قَالُوا: الْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ أَيْضًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ، عَنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُمْ أَقَرُّوا بِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ التَّخَلُّفِ حُبُّهُمْ لِلْأَمْوَالِ وَشِدَّةُ حِرْصِهِمْ عَلَى صَوْنِهَا عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّمَا يَظْهَرُ صِحَّةُ قَوْلِكُمْ فِي ادِّعَاءِ هَذِهِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ لَوْ أَخْرَجْتُمُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، وَلَمْ تُضَايِقُوا فِيهَا، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَقَرَّرُ إِلَّا بِالْمَعْنَى، وَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أَوْ يُهَانُ، فَإِنْ أَدَّوْا تِلْكَ الزَّكَوَاتِ عَنْ طِيبَةِ النَّفْسِ ظَهَرَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ فِي تِلْكَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ كَاذِبُونَ مُزَوِّرُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. لَكِنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى التَّكْلِيفِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ الْوَاجِبَةِ مع أنه يبق نَظْمُ هَذِهِ الْآيَاتِ سَلِيمًا أَوْلَى، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الصَّدَقَاتُ/ الْوَاجِبَةُ. قَوْلُهُ: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَالْمَعْنَى تُطَهِّرُهُمْ عَنِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ أَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَاتِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَحَصَلَ الذَّنْبُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ حُصُولُهُ فِي الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ:
فَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا عَذَرَ أُولَئِكَ التَّائِبِينَ وَأَطْلَقَهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي بِسَبَبِهَا تَخَلَّفْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكَ الثُّلُثَيْنِ
لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وَلَمْ يَقُلْ خُذْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَلِمَةُ (مِنْ) تُفِيدُ التَّبْعِيضَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَمْنَعُ الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لَمَّا رَضِيتُمْ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلِأَنْ تَصِيرُوا رَاضِينَ بِإِخْرَاجِ الْوَاجِبَاتِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ.
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَمْوَالِ لَا كُلُّهَا إِذْ مِقْدَارُ ذَلِكَ الْبَعْضِ غَيْرُ مذكور هاهنا بصريح اللفظ، بل المذكور هاهنا قَوْلُهُ: صَدَقَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التنكير حتى يكفي أخد أَيِّ جُزْءٍ كَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، مِثْلُ الْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الْجُزْءِ الْحَقِيرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَدَقَةً مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكِمِّيَّةِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَمْرًا بِأَخْذِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الْمَعْلُومَةِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ الْإِجْمَالُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ لَيْسَتْ إِلَّا الصَّدَقَاتُ الَّتِي وَصَفَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كَيْفِيَّتَهَا، وَالصَّدَقَةُ الَّتِي بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَرَاتِبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أَمْرًا بِأَنْ يَأْخُذَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْمَخْصُوصَةَ وَالْأَعْيَانَ الْمَخْصُوصَةَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ، فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ