الْقَلْبُ إِمَّا الِاعْتِقَادُ، وَإِمَّا كَلَامُ النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ عِبَارَةً إِمَّا عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَإِمَّا عَنِ التَّصْدِيقِ بِكَلَامِ النَّفْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أَيْ فَتَحَهُ وَوَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْكُفْرِ وَانْتُصِبَ صدرا على أنه مفعول لشرح، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَهُ، وَحَذَفَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ لَا يُشْكِلُ بِصَدْرِ غَيْرِهِ إِذِ الْبَشَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَرْحِ صَدْرِ غَيْرِهِ فَهُوَ نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ.
ثم قال: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فَقَالَ:
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
ثم قال تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أَيْ رَجَّحُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ وَذَلِكَ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى مَا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَمَا عَصَمَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عِلَّةً وَسَبَبًا مُوجِبًا لِإِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَعَدَمُ الْهِدَايَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ لَيْسَ سَبَبًا لِذَلِكَ الِارْتِدَادِ، وَلَا عِلَّةً لَهُ بَلْ مُسَبَّبًا عَنْهُ وَمَعْلُولًا لَهُ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، ثُمَّ أَكَّدَ بَيَانَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَفَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ قَالَ الْقَاضِي: الطَّبْعُ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ لَمَا اسَّتَحَقُّوا الذَّمَّ بِتَرْكِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَشْرَكَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَبَيْنَ الْقَلْبِ فِي هَذَا الطَّبْعِ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَنَّ مَعَ فَقْدِهِمَا قَدْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا فَضْلًا عَنْ طَبْعٍ يَلْحَقُهُمَا فِي الْقَلْبِ.
وَالثَّالِثُ: وَصَفَهُمْ بِالْغَفْلَةِ. وَمَنْ مُنِعَ مِنَ الشَّيْءِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الطَّبْعِ السِّمَةُ وَالْعَلَامَةُ الَّتِي يَخْلُقُهَا فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ، وَأَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ مَعَ التَّقْرِيرَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَمَعَ الْجَوَابَاتِ الْقَوِيَّةِ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
ثم قال: لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَا الْخُسْرَانِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِصِفَاتٍ سِتَّةٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا غَضَبَ اللَّهِ.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَرَمَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ.
وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مِنَ الْغَافِلِينَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَسْعَوْنَ