فِي دَفْعِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي حَقِّهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ السِّتَّةُ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَحْوَالِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْفَوْزِ بِالْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَدْخَلَ الْإِنْسَانَ الدُّنْيَا/ لِيَكُونَ كَالتَّاجِرِ الَّذِي يَشْتَرِي بِطَاعَاتِهِ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ الْعَظِيمَةُ عَظُمَ خُسْرَانُهُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ هُمُ الْخَاسِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ خُسْرَانِهِمْ والله أعلم.
سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 111ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)
في قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَالَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَحَالَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ، فَذَكَرَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَحَالَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا، ذَكَرَ بَعْدَهُ حَالَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنَ فَقَالَ:
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَتَنُوا بِفَتْحِ الْفَاءِ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَأُمُورٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَكَابِرَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آذَوْا فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَوْ تَابُوا وَهَاجَرُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ فَتَنَ وَأَفْتَنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ:
مَانَ وَأَمَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ لَمَّا ذَكَرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَفْتُونِينَ هُمُ الْمُسْتَضْعَفُونَ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ أَقْوِيَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الرِّدَّةِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِيمَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا وَصَبَرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ تَكَلُّمَهُمْ بكلمة الكفر.
المسألة الثالثة: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ هُوَ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ أَنَّهُمْ خُوِّفُوا بِالتَّعْذِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ ارْتَدُّوا. قَالَ الْحَسَنُ:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَعَرَضَتْ لَهُمْ فِتْنَةٌ فَارْتَدُّوا/ وَشَكُّوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ،
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ارْتَدَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفِتْحِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ فَأَجَارَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ،
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ لَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً أَوْ جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ مِنْهَا مَدَنِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ الْمُعَذَّبِينَ تَكَلَّمُوا بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَازِلَةً فِيمَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ، فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا إِثْمَ فِيهِ، وَأَنَّ حَالَهُ إِذَا هَاجَرَ وَجَاهَدَ وَصَبَرَ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَتْ وَارِدَةً فِيمَنِ ارْتَدَّ فَالْمُرَادُ أَنَّ التَّوْبَةَ وَالْقِيَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ يُزِيلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَيَحْصُلُ لَهُ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، فَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِها تَعُودُ إِلَى الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ والجهاد والصبر.