الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: فِي مُوجِبِ اللِّعَانِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا رَمَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً وَالتَّعْزِيرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً، كَمَا فِي رَمْيِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُمَا غَيْرَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمُخَلِّصِ فَفِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ لا يسقط الحد عن القذف إلا بإقرار المقذف أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى زِنَاهَا، وَفِي قَذْفِ الزوجة يقسط عَنْهُ الْحَدُّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ بِاللِّعَانِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّرْعُ اللِّعَانَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ فِي زِنَا الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأَوْلَى لَهُ سَتْرُهُ، أَمَّا إِذَا زَنَى بِزَوْجَتِهِ فَيَلْحَقُهُ الْعَارُ وَالنَّسَبُ الْفَاسِدُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى الْبَيِّنَةِ كَالْمُعْتَذِرِ، فَلَا جَرَمَ خَصَّ الشَّرْعُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاللِّعَانِ الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَحْوَالِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُهَا بِالْقَذْفِ إِلَّا عَنْ حَقِيقَةٍ، فَإِذَا رَمَاهَا فَنَفْسُ الرَّمْيِ يَشْهَدُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا إِلَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْحَالِ لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَضُمَّ إِلَيْهَا مَا يُقَوِّيهَا مِنَ الْأَيْمَانِ، كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ لَمَّا ضَعُفَتْ قَوِيَتْ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ يَتَقَوَّى بِالْيَمِينِ عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الأجنبيات والزوجات والجلد، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ إِلَّا أَنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ،
وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّه نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه إِذَا قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ وَلَكِنَّ الْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِاللِّعَانِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحَدُّ وَالْمُخَلِّصَ مِنْهُ بِالشُّهُودِ، فَإِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِلْقَذْفِ، فَإِذَا لَاعَنَ وَنَكَلَتْ عَنِ اللِّعَانِ يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ/ اللَّه إِذَا نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ إِذَا نَكَلَتْ حُبِسَتْ حَتَّى لَا تُلَاعِنَ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي أول السورة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ النور: 4 يَعْنِي غَيْرَ الزَّوْجَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً النور: 4 ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ الْآيَةَ فَكَمَا أَنَّ مُقْتَضَى قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْإِتْيَانُ بِالشُّهُودِ أَوِ الْجَلَدُ فَكَذَا مُوجِبُ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ الْإِتْيَانُ بِاللِّعَانِ أَوِ الْحَدُّ وثانيها: قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ الدَّاخِلَانِ عَلَى الْعَذَابِ لَا يُفِيدَانِ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَوَجَبَ صَرْفُهُمَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ وَالْمَعْهُودُ السَّابِقُ هُوَ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ النور: 2 وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَدُّ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ من العذاب في قوله: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ هُوَ الْحَدُّ ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَلَاعِنْ لَحُدَّتْ وَأَنَّهَا بِاللِّعَانِ دَفَعَتِ الْحَدَّ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ الْمَذْكُورِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْعَذَابُ بِمَعْنَى الْحَدِّ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَدِّ لَا تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً. أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَبْسِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَأَنَّ مِقْدَارَ الْحَبْسِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَثَالِثُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا تَقُولُ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَادِقًا فَحُدُّونِي وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَخَلُّونِي فَمَا بَالِي وَالْحَبْسُ وَلَيْسَ حَبْسِي فِي كِتَابِ اللَّه ولا سنة