الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّا نَحْنُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الشُّهْرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ يُقَالُ لَهُ مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ فُلَانٍ فَيُعْرَفُ وَمَنْ يَكُونُ مَشْهُورًا إِذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ يَقُولُ أَنَا أَيْ لَا مُعَرِّفَ لِي أَظْهَرُ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ مَعْرُوفُونَ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَإِذَا عُرِّفْنَا بِأَنْفُسِنَا فَلَا تُنْكِرُ قُدْرَتَنَا عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وثانيهما: أن يكون الخبر نُحْيِ كأنه قال إنا نحيي الموتى، ونَحْنُ يَكُونُ تَأْكِيدًا وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّا نَحْنُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ بِغَيْرِ النَّفْسِ فَإِنَّ زَيْدًا إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي الِاسْمِ، فَلَوْ قَالَ أَنَا زَيْدٌ لَمْ يَحْصُلِ التَّعْرِيفُ التَّامُّ، لِأَنَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّمَا زَيْدٍ؟ فَيَقُولُ ابْنُ عَمْرٍو وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ زَيْدٌ آخَرُ أَبُوهُ عَمْرٌو لَا يَكْفِي قَوْلُهُ ابْنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ: إِنَّا نَحْنُ أَيْ لَيْسَ غَيْرُنَا أَحَدٌ يشاركنا حتى تقول إِنَّا كَذَا فَنَمْتَازُ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ مَذْكُورَةً، الرِّسَالَةُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْمُرَادُ مَا قَدَّمُوا وَأَخَّرُوا فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ النَّحْلِ: 81 وَالْمُرَادُ وَالْبَرْدَ أَيْضًا وَثَانِيهَا: الْمَعْنَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ صَالِحَةً كَانَتْ أَوْ فَاسِدَةً وَهُوَ كما قال تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ البقرة: 95 أَيْ بِمَا قَدَّمَتْ فِي الْوُجُودِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَوْجَدَتْهُ وَثَالِثُهَا: نَكْتُبُ نِيَّاتِهِمْ فَإِنَّهَا قَبْلَ الْأَعْمَالِ وآثارهم أَيْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَآثَارُهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: آثَارُهُمْ أَقْدَامُهُمْ فَإِنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بَعُدَتْ دُورُهُمْ عَنِ الْمَسَاجِدِ فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ خُطُوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ فَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ»
وَالثَّانِي: هِيَ السُّنَنُ الْحَسَنَةُ، كَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ وَالْقَنَاطِرِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْحَبَائِسِ الدَّارَّةِ، وَالسُّنَنُ السَّيِّئَةُ كالظلمات الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا ظَالِمٌ وَالْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ، وَآلَاتِ الْمَلَاهِي وَأَدَوَاتِ الْمَنَاهِي الْمَعْمُولَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهُوَ فِي معنى
قوله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»
فَمَا قَدَّمُوا هُوَ أَفْعَالُهُمْ وَآثَارُهُمْ أَفْعَالُ الشَّاكِرِينَ فَبَشِّرْهُمْ حَيْثُ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ الْأَعْمَالُ وَمَا قَدَّمُوا النِّيَّاتِ فَإِنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الْعَمَلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْكِتَابَةُ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ فَكَيْفَ أَخَّرَ فِي الذِّكْرِ حَيْثُ قَالَ: نُحْيِي وَنَكْتُبُ وَلَمْ يَقُلْ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَنُحْيِيهِمْ نَقُولُ الْكِتَابَةُ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِ الْإِحْيَاءِ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِسَابِ لَا يُعَظَّمُ وَالْكِتَابَةُ فِي نَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ إِحْيَاءً وَإِعَادَةً لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَصْلًا فَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَالْكِتَابَةُ مُؤَكِّدَةٌ مُعَظِّمَةٌ لِأَمْرِهِ، فَلِهَذَا قُدِّمَ الْإِحْيَاءُ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: إِنَّا نَحْنُ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْعَظَمَةَ وَالْجَبَرُوتَ، وَالْإِحْيَاءُ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالْكِتَابَةُ دُونَهُ فَقَرَنَ بِالتَّعْرِيفِ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ وَذَكَرَ مَا يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْعَظِيمَ وَقَوْلُهُ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيَانًا لِكَوْنِ مَا قَدَّمُوا وَآثَارُهُمْ أَمْرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ لَا يُبَدَّلُ، فَإِنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بما هو كائن فلما قال: نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا بَيَّنَ أَنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كِتَابَةً أُخْرَى فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إِذَا فَعَلُوهُ كُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَكْتُبُ لِأَنَّ مَنْ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي أَوْرَاقٍ وَيَرْمِيهَا قَدْ لَا يَجِدُهَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ فَقَالَ: نَكْتُبُ وَنَحْفَظُ ذَلِكَ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عِلْمُها عِنْدَ