رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى
طه: 52 وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ/ التَّخْصِيصِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْصًى فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا يَفُوتُهُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ الْقَمَرِ: 52، 53 يَعْنِي لَيْسَ مَا فِي الزُّبُرِ مُنْحَصِرًا فِيمَا فَعَلُوهُ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مَكْتُوبٌ، وَقَوْلُهُ: أَحْصَيْناهُ أَبْلَغُ مِنْ كَتَبْنَاهُ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا مُفَرَّقًا يَحْتَاجُ إِلَى جَمْعِ عَدَدِهِ فَقَالَ: هُوَ مُحْصًى فِيهِ وَسُمِّيَ الْكِتَابُ إِمَامًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَّبِعُونَهُ فَمَا كُتِبَ فِيهِ مِنْ أَجَلٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ اتَّبَعُوهُ وَقِيلَ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَإِمَامٌ جَاءَ جَمْعًا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ الْإِسْرَاءِ: 71 أَيْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَإِمَامٌ إِذَا كَانَ فَرْدًا فَهُوَ كَكِتَابٍ وَحِجَابٍ وَإِذَا كَانَ جَمْعًا فَهُوَ كَجِبَالٍ وَحِبَالٍ وَالْمُبِينُ هُوَ الْمُظْهِرُ لِلْأُمُورِ لِكَوْنِهِ مُظْهِرًا لِلْمَلَائِكَةِ مَا يَفْعَلُونَ وَلِلنَّاسِ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ وَهُوَ الْفَارِقُ يَفْرِقُ بَيْنَ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فَيَجْعَلُ فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وفريقا في السعير. ثم قال تعالى:
سورة يس (36) : آية 13وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاضْرِبْ لِأَجْلِهِمْ مَثَلًا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاضْرِبْ لِأَجْلِ نَفْسِكَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا أَيْ مَثِّلْهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يس: 3 وقال: لِتُنْذِرَ يس: 6 قَالَ قُلْ لَهُمْ: مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ الْأَحْقَافِ: 9 بَلْ قَبْلِي بِقَلِيلٍ جَاءَ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ مُرْسَلُونَ وَأَنْذَرُوهُمْ بِمَا أَنْذَرْتُكُمْ وَذَكَرُوا التَّوْحِيدَ وَخَوَّفُوا بِالْقِيَامَةِ وَبَشَّرُوا بِنَعِيمِ دَارِ الْإِقَامَةِ، وَعَلَى الثَّانِي نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَنْفَعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ قَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا تَأَسَ وَاضْرِبْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مَثَلًا، أَيْ مَثِّلْ لَهُمْ عِنْدَ نَفْسِكَ مَثَلًا حَيْثُ جَاءَهُمْ ثَلَاثَةُ رُسُلٍ وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَصَبَرَ الرُّسُلُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْإِيذَاءِ، وَأَنْتَ جِئْتَهُمْ وَاحِدًا وَقَوْمُكَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْمِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا قَرْيَةً وَأَنْتَ بُعِثَتْ إِلَى الْعَالَمِ، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ ضَرَبَ مَثَلًا؟ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاضْرِبْ مَعَ أَنَّ الضَّرْبَ فِي اللُّغَةِ، إِمَّا إِمْسَاسُ جِسْمٍ جِسْمًا بِعُنْفٍ، وَإِمَّا السَّيْرُ إِذَا قُرِنَ بِهِ حَرْفُ في كقوله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ النِّسَاءِ:
101 نَقُولُ قَوْلُهُ ضَرَبَ مَثَلًا مَعْنَاهُ مَثَّلَ مَثَلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِلنَّوْعِ يُقَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ أَيِ اجْعَلْ هَذَا وَذَاكَ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ مَعْنَاهُ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مِثْلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ فَتَرَكَ الْمَثَلَ وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يُوسُفَ: 82 هَذَا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ بَلِ الْمَعْنَى اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ لَهُمْ مَثَلًا أَوْ مَثِّلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ بِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (إِذْ) مَنْصُوبَةٌ لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ (أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ) كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى:
/ وَاضْرِبْ لَهُمْ وَقْتَ مَجِيءِ الْمُرْسَلِينَ وَمَثِّلْ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِوَقْتِ مَجِيئِكَ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَعَلَى قَوْلِنَا إِنَّ هَذَا الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ لِنَفْسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ تَسْلِيَةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِذْ ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: اضْرِبْ أَيِ