الْمُنَافِقُونَ، وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الْمُنَافِقِينَ، وَالْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ: هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُمُ الْعَامَّةُ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ بِقِرَاءَةٍ وَلَا كِتَابَةٍ وَطَرِيقَتُهُمُ التَّقْلِيدُ وَقَبُولُ مَا يُقَالُ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ لَيْسَ سَبَبُ ذَلِكَ الِامْتِنَاعِ وَاحِدًا بَلْ لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمْ سَبَبٌ آخَرُ وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شَرْحِ فِرَقِ الْيَهُودِ وَجَدَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُعَانِدُ الْحَقَّ وَيَسْعَى فِي إِضْلَالِ الْغَيْرِ وَفِيهِمْ مَنْ يَكُونُ مُتَوَسِّطًا، وَفِيهِمْ مَنْ يكون عاماً مَحْضًا مُقَلِّدًا، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْأُمِّيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَنْ لَا يُقِرُّ بِكِتَابٍ وَلَا بِرَسُولٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَالْقِرَاءَةَ وَهَذَا الثَّانِي أَصْوَبُ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الْيَهُودِ وَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ
وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ»
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: «الْأَمَانِيُّ» جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَحَدُهَا: مَا تَخَيَّلَهُ الْإِنْسَانُ فَيُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وُقُوعَهُ وَيُحَدِّثُهَا بِكَوْنِهِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ يَعِدُ فَلَانًا وَيُمَنِّيهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً النِّسَاءِ: 120 فَإِنْ فَسَّرْنَا الْأَمَانِيَّ بِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ: (إِلَّا أَمَانِيَّ) إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِخَطَايَاهُمْ وَأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَمَا تُمَنِّيهِمْ أَحْبَارُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً. وَثَانِيهَا: إِلَّا أَمانِيَّ إِلَّا أَكَاذِيبَ مُخْتَلِفَةً سَمِعُوهَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَقَبِلُوهَا عَلَى التَّقْلِيدِ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنِ دَأْبٍ فِي شَيْءٍ حَدَّثَ بِهِ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أَمْ تَمَنَّيْتَهُ أَمِ اخْتَلَقْتَهُ. وَثَالِثُهَا: إِلَّا أَمانِيَّ أَيْ إِلَّا مَا يَقْرَءُونَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» والاشتقاق منى من، إِذَا قَدَّرَ لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَجُوزُ مَا يَتَمَنَّاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِقُ وَالْقَارِئُ يُقَدِّرُ أَنَّ كَلِمَةَ كَذَا بَعْدَ كَذَا، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
حَمْلُهُ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الْبَقَرَةِ: 111 أَيْ تَمَنِّيهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ النِّسَاءِ: 123 وَقَالَ: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ الْبَقَرَةِ: 111 وَقَالَ تَعَالَى: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الْجَاثِيَةِ: 24 بِمَعْنَى يُقَدِّرُونَ وَيَخْرُصُونَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: حَمْلُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْحَجِّ: 52 وَلِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَلْيَقُ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ تَعَلُّقٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُونَهُ وَبِقَدْرِ مَا يُذْكَرُ لَهُمْ فَيَقْبَلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَحَادِيثُ وَالْأَكَاذِيبُ أَوِ الظَّنُّ وَالتَّقْدِيرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ نَادِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَمانِيَّ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ
... وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِغَائِبِ
وَقُرِئَ «إِلَّا أَمَانِيَ» بِالتَّخْفِيفِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَكَالْمُحَقِّقِ لِمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ الْأَمَانِيَ إِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّقْدِيرُ وَالْفِكْرُ لِأُمُورٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فَهِيَ ظَنٌّ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَدِيثُ النَّفْسِ غَيْرُ وَالظَّنُّ غَيْرُ فَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى التِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ يَحْسُنُ مَعْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمِنْهُمْ أميون لا