يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا بِأَنْ يُتْلَى عَلَيْهِمْ فَيَسْمَعُوهُ وإلا بان يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا تُوَصِّلُ إلى الحق، وفي الآية مسائل. أحدها: أَنَّ الْمَعَارِفَ كَسْبِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَيَظُنُّ. وَثَانِيهَا: بُطْلَانُ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا وَهُوَ مُشْكَلٌ لِأَنَّ/ التَّقْلِيدَ فِي الْفُرُوعِ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُضِلَّ وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا فَالْمُغْتَرُّ بِإِضْلَالِ الْمُضِلِّ أَيْضًا مَذْمُومٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ فِي أُصُولِ الدِّينِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ
فَقَالُوا: الْوَيْلُ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا كُلُّ مَكْرُوبٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّهُ مَسِيلُ صَدِيدِ أَهْلِ جَهَنَّمَ،
وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» .
قَالَ الْقَاضِي: «وَيْلٌ» يَتَضَمَّنُ نِهَايَةَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ فَهَذَا الْقَدْرُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَيْلُ عِبَارَةً عَنْ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أَوْ عَنِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ كَتَبْتُ إِذَا أَمَرَ بِذَلِكَ فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَحْسُنُ فِيهِ التَّأْكِيدُ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُنْكِرُ مَعْرِفَةَ مَا كَتَبَهُ: يَا هَذَا كَتَبْتَهُ بِيَمِينِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ يَكْتُبُ هَذِهِ الْكِتَابَةَ وَيَكْسِبُ هَذَا الْكَسْبَ فِي غَايَةِ الرَّدَاءَةِ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا عَنِ الدِّينِ وَأَضَلُّوا وَبَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِدُنْيَاهُمْ، فَذَنْبُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى الْغَيْرِ بِمَا يَضُرُّ يَعْظُمُ إِثْمُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَيَضُمُّ إِلَى الْكَذِبِ الْإِضْلَالَ وَيَضُمُّ إِلَيْهِمَا حُبَّ الدُّنْيَا وَالِاحْتِيَالَ فِي تَحْصِيلِهَا وَيَضُمُّ إِلَيْهَا أَنَّهُ مَهَّدَ طَرِيقًا فِي الْإِضْلَالِ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَلِذَلِكَ عَظَّمَ تَعَالَى مَا فَعَلُوهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: كَتَبَةُ الْكِتَابِ وَالْآخَرُ: إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ، فَهَذَا الْوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْكَتَبَةِ أَوْ عَلَى إِسْنَادِ الْمَكْتُوبِ إِلَى اللَّهِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا؟ قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ كَتَبَةَ الْأَشْيَاءِ الْبَاطِلَةِ لِقَصْدِ الْإِضْلَالِ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا كَذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُنْكَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى نِهَايَةِ شَقَاوَتِهِمْ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْوِزْرِ الْقَلِيلِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَرْضَى بِالْعِقَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ النَّفْعِ الْحَقِيرِ فِي الدُّنْيَا، الثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا فَعَلُوا ذَلِكَ التَّحْرِيفَ دِيَانَةً بَلْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ طَلَبًا لِلْمَالِ وَالْجَاهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ كَانَ بِالتَّرَاضِي فهو محرم، لأن الذي كَانُوا يُعْطُونَهُ مِنَ الْمَالِ كَانَ عَلَى مَحَبَّةٍ وَرِضًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى تَحْرِيمِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ كَتْبَتَهُمْ لِمَا كَتَبُوهُ ذَنْبٌ عَظِيمٌ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ أَخْذُهُمُ الْمَالَ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ أَعَادَ ذِكْرَ الْوَيْلِ فِي الْكَسْبِ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْمُوعَهُمَا يَقْتَضِي الْوَعِيدَ الْعَظِيمَ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا يَكْسِبُونَ هَلِ الْمُرَادُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَى هَذِهِ الْكِتَابَةِ وَالتَّحْرِيفِ فَقَطْ أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ سَائِرُ مَعَاصِيهِمْ وَالْأَقْرَبُ فِي نِظَامِ الْكَلَامِ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْكُلَّ، لَكِنَّ الَّذِي يُرَجِّحُ الْأَوَّلَ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُقَيَّدْ كَسْبُهُمْ بِهَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَحْسُنِ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكَسْبَ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ وَأَوْلَى مَا يُقَيَّدُ/ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كِتَابَتَهُمْ لَيْسَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ