وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَوَّلُهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَثَانِيهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى القدرة على المعادو ثالثها: أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَى عَبِيدِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ، لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّدَ عَنْ طَاعَتِهِ وَأَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى عَبِيدِهِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَهُوَ شَرْحُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَهَا خَافَ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْكُفْرِ، وَيَدْعُوهُ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى تَرْكِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَى إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ: فقال:
سورة عبس (80) : آية 33فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الصَّخِّ فِي اللُّغَةِ الطَّعْنُ وَالصَّكُّ، يُقَالُ صَخَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ أَيْ شَدَخَهُ وَالْغُرَابُ يَصُخُّ بِمِنْقَارِهِ فِي دُبُرِ الْبَعِيرِ أَيْ يَطْعَنُ، فَمَعْنَى الصَّاخَّةِ الصَّاكَّةِ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا لِلْآذَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: يُقَالُ صَخَّ لِحَدِيثِهِ مِثْلُ أَصَاخَ لَهُ، فَوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بِالصَّاخَّةِ مَجَازًا لِأَنَّ النَّاسَ يَصِخُّونَ لَهَا أَيْ يَسْتَمِعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 36يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهَرُهُ وَهُوَ التَّبَاعُدُ وَالِاحْتِرَازُ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْفِرَارِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّبِعَاتِ. يَقُولُ الْأَخُ: مَا وَاسَيْتَنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ يَقُولَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ تَقُولُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ، وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ يَقُولُونَ: مَا عَلَّمْتَنَا وَمَا أَرْشَدْتَنَا، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ هَابِيلُ، وَمِنْ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ صَاحَبَتِهِ نُوحٌ وَلُوطٌ، وَمِنِ ابْنِهِ نُوحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ لَيْسَ هُوَ التَّبَاعُدُ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ مُوَالَاةِ أَخِيهِ لِاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْبَقَرَةِ: 166 وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً الدُّخَانِ: 41 وَأَمَّا تَرْكُ السُّؤَالِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً الْمَعَارِجِ: 10 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ كَانَ الْمَرْءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَفِرُّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَجِيرُ بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ التَّرْتِيبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَلْ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَخَوَيْنِ بَلْ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهِمَا أشد من تعلقه بالأبوين. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْفِرَارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى:
سورة عبس (80) : آية 37لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)